مقالات الوعىتنمية المرأةتثقيف المرأة في كافة المجالات › منهج القرآن الكريم في مواساة المصابين

منهج القرآن الكريم في مواساة المصابين

مواساة المصابين والتخفيف عن المنكوبين، والمبتلين دليل على إيمان العبد، وحسن فهمه لمبادئ الإسلام القويمة, وللقرآن الكريم منهج خاص في مواساته للمبتلين والمصابين، وهذا المنهج الخاص يقوم على أسس، ودعائم منها أن:

1- الدنيا دار اختبار وابتلاء:

فالدنيا كما وصفها الله تعالى بأنها دار اختبار وابتلاء، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

ووصفها أيضاً بأنها دار لهو ولعب، وأن نعيمها لا يدوم، والراحة فيها ليست بباقية، قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24].

وقال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } [الكهف: 45].

وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد: 20].


ولقد وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنها سجن للمؤمن، والمسجون يتشوق إلى التحرر من السجن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِر ».أخرجه أحمد 2/323(8272)، ومسلم (8/210)، والتِّرمِذي (1324).

والعاقل هو من يؤثر ما يبقى على ما يفنى، عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: « منْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَّرَ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا ما يبقى عَلَى ما يفنى». أخرجه ابن حبان في صحيحه (2473)، وأحمد (4 / 412)، والحاكم (4 / 308، 319)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ ». أخرجه التِّرْمِذِي (2465)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2 /670).

وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.

قال الشاعر:

حكم المنيـة في البريـة جاري *** ما هـذه الدنـيـا بـدار قـرار
بينما يرى الإنسان فيها مخبرا *** ألفيـتـه خـبـرا مـن الأخبـار
طبعت على كدر و أنت تريدهـا *** صفـوا من الأقـذار والأكـدار
ومكـلـف الأيـام ضد طبـاعـهـا *** متطـلب قي الماء جذوة نـار
وإذا رجـوت المستحيـل فـإنما *** تبني الرجاء على شفير هـار


يروى أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً، واحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفه نفسه، ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة، وبنى قصراً عالياً مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء، وركَّب عليه بابين محكمين، وأقام عليه الغلمان، والجلاد، والحرس، والأجناد، والبوابين كما أراد، وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام، وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته، واتكأ على وسادته، وقال يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي لذلك، وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل، فلم يفرغ مما حدث نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة، ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام، فجاء، وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر، وتزعزع السرير، وخاف الغلمان، ووثبوا إلى الباب، وصاحوا بالطارق، وقالوا: يا ضيف ما هذا الحرص، وسوء الأدب اصبر إلى أن نأكل، ونعطيك مما يفضل، فقال لهم قولوا لصاحبكم أن يخرج إليّ فلي إليه شغل مهم، وأمر ملم، فقالوا له: تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك، فقال: أنتم عرِّفوه ما ذكرت لكم، فلما عرَّفوه قال هلا نهرتموه، وجرتم عليه، وزجرتموه، ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح، وقصدوه ليحاربوه، فصاح بهم صيحة، وقال: ألزموا أماكنكم فأنا ملك الموت، وطاشت حلومهم، وارتعدت فرائضهم، وبطلت عن الحركة جوارحهم فقال الملك قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضاً عني فقال ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حويتها. ابن الجوزي: التبصرة 1/169.

وقال جابر بن عبد الله خرجت مع الإمام علي رضي الله عنه إلى خارج المدينة، فتفكرت في أحوال الدنيا، وغرورها، وفتنتها، فقال: يا جابر إن الدنيا أحقر من أن يفتتن بها لبيب، يا جابر إن لذاتها في ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس، ومنكوح ومشموم ومسموع، فأما المأكول فألين ما يؤكل العسل وهو رجيع ذبابة, وأما المشروب فألذ ما يشرب الماء وقد تساوى فيه جميع الحيوانات، وأما الملبوس فأفخر ما يلبس الحرير ومخرجه من دودة، وأما المنكوح فمبال في مبال، وأما المشموم فأطيبه المسك وهو دم دابة، وأما المسموع فألذ ما يسمع الوتر وهو إثم كله.
 

قد أولـع الناسُ في الدنيا بأربعـةٍ *** أكـل وشـرب وملبـوس ومنكـوح
وغايـة الكُلِّ إنْ فكـرت فيـه إلى *** رَوْثٍ وبـول ومطـروح ومفضوح


2- لست وحدك المبتلى في هذه الحياة:

وكما أخبرنا القرآن الكريم بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، فقد أخبرنا أيضاً بأن المبتلى فيها ليس فرداً في ابتلائه، وأنه ليس وحده المبتلى، قال تعالى: {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

بل إن أشرف الناس - الأنبياء والمرسلون - كانوا أكثر الناس ابتلاء، عَن سعد بن أَبي وَقاصِ، قَالَ: « قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ اَلناسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأنبياء، ثُم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلَى اَلْعَبْدُ على حَسَبِ دِينِهِ، فَإنْ كَانَ فِي دِينِهِ صلبا اَشتَد بَلاؤهُ، وإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقة أبتُلِيَ على حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ ألبَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتُّىَ يَترُكَهُ يَمشِي على ألأَرضِ، ومَا عَلَيهِ مِن خَطِيئَةِ ». أخرجه أحمد 1/172(1481)، وابن ماجة(4023)، والتِّرْمِذِيّ(2398)،و الألباني في السلسلة الصحيحة (143).

و قد ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب لأمه معزياً في ذكاء قائلاً: يا أماه، إذا جاءك كتابي فاصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، وتسألي هل وجدت لشيء قراراً، إني لأرجو أن الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه. فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة. فلم يتقدم أحد من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها فقالت: بني، من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك السلام حياً وميتاً. انظر: تسلية أهل المصائب صـ20،21.

قالت الخنساء في رثاء أخيها صخرا:
 

ألا يا صخرُ لا أنسـاكَ حتـى *** أفارقَ مُهجتي ويُشقَّ رَمْسِـي
ولـولا كثرة الباكيـن حولـي *** على إخـوانهـم لقتلـْتُ نَفْسِـي
وما يَبكونَ مثلَ أخي ولكِـنْ *** اعزّي النَّفـسَ عنهُ بالتَّأسـي


3- تنوع وتعدد أنواع الابتلاء في حياة الناس:

المتأمل لتاريخ الأنبياء، وقصصهم في القرآن الكريم يلحظ أنه ما من نبي، ولا غير نبي إلا قد ابتلي، ولقد تنوع البلاء وتعدد في حياة الناس، وفي هذا كله نوع من أنواع المواساة للمصابين والمبتلين، فمن ابتلي بالمرض فليتذكر قصة أيوب عليه السلام الذي ظل مريضاً السنين الطوال حتى تساقط لحمه وتركه من حوله، قال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83،84].

ومن ابتلي بزوجة سيئة الخلق فلتذكر امرأة نوح وامرأة لوط، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [التحريم: 10].

ومن ابتليت بزوج سيء فلتتذكر آسية امرأة فرعون، قال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].


ومن ابتلي بولد عاق فليذكر قصة نوح عليه السلام مع ولده، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود: 42،42].

ومن ابتلي بوالد كافر عاص فليتأسى بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه آذر، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [مريم: 41-47].


ومن ابتلي بأذى قومه فليتسلى بقصص الأنبياء مع قومهم، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68-70].

وقال عن موسى عليه السلام: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا } [الأحزاب: 69].

وقال تعالى عن حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [التوبة: 30]، وقال: { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61].

وهكذا فقد تنوع الابتلاء، وتعددت المصائب في حياة من جعلهم الله تعالى المثل والقدوة لجميع الناس.

قال ابن القيم في (الفوائد) صـ (42): (الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضْجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب... وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم) انتهى.
 

يا لاهياً بالمنـايا قد غـره الأمـلُ *** وأنت عمـا قليل سـوف ترتحلُ
تبغـي اللحـوق بـلا زاد تقـدمه *** إن المخفين لما شمروا وصلوا
لا تركنـن إلى الدنـيـا وزخرفهـا *** فـأنت مـن عاجل الدنيـا ستنتقلُ
أصبحت ترجو غداً يأتي وبعد غد *** ورب ذي أمـل قد خـانه الأمـلُ
هذا شبـابـك قد ولـت بشـاشـتـه *** ما بعد شيـبـك لا لهـو ولا جـدلُ
ماذا التعـلل بالدنيـا وقد نشـرت *** لأهلهـا صحـة في طيهـا علـلُ


4- الأمر بالصبر على الابتلاء والحث عليه:

أمرنا الله تعالى بالصبر وحثنا عليه لكي يكون مسلاة لنا عند المصائب والشدائد، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
بل، وقرن الصبر بفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق، فقرنه بالتسبيح والاستغفار، فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [الطور: 48،49].

وقرنه باليقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].

وقرنه بالتوكل فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:42].

كما ربطه بالشكر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: من الآية 5].

وربطه بالتقوى فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: من الآية 186].

وربطه كذلك بالحق فقال: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [سورة العصر].

وربطه بالرحمة فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17،18].

وكذا ربطه بالجهاد في سبيل الله تعالى فقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل: 110].

والصابرون هم من أعظم الناس جزاءً، ومن أكثرهم سعادة يوم القيامة قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: من الآية 10].

وعَن أَبي سَعِيدٍ الْخُدرِي رضي الله عنه: « أن نَاساَ مِنَ اَلأنصَارِ سَاَلُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُمْ، ثُم سَأَلُوُهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَى نَفِذ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِن خَير فَلَنْ أَدخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْن يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبرْ يُصَبرهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أَحَد عَطَاء خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصبْر».أخرجه أحمد 3/93 (11912)، والبخاري 2/151(1469)، ومسلم3/102(2388).

قال الشاعر:

اصبر ففي الصبر خير لو علمت به *** لطبت نفساً ولم تجزع من الألـم
واعلـم بأنك لو لم تصطبر كرمـاً *** صبرت رغماً على ما خط بالقلـم


5- تبشير المؤمنين بفضل ثواب الصابرين:

وكما أمرنا الله تعالى بالصبر مواساة لكل مصاب، ودفعاً للشك واليأس عن كل قلب متكبر مرتاب، فقد بشر الله تعالى الصابرين بحسن الجزاء، وجزيل العطاء، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

قال أهل التفسير: والصلاة من الله المغفرة، قاله ابن عباس - أو الثناء، قاله ابن كيسان - أو الغفران والثناء الحسن، قاله الزجاج.

والرحمة: قيل هي الصلوات، كررت تأكيداً لما اختلف اللفظ، كقوله: { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد: من الآية 27]، وقيل: الرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. انظر: تفسير البحر المحيط 2/102.

وقال أيضاً في فضل الصبر وبيان جزاء الصابرين ( أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً} [الفرقان:75].

عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: { يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ }.أخرجه التِّرْمِذِي (2402) صحيح الجامع: {8177).

وعَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ، أًنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قال الله، لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُم وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولَونَ: نعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قال عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاستَرْجَعَ. فَيَقُولُ الله: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ».أخرجه أحمد (4/415) والترمذي (1021).

الوزير المهلبي أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون، كان وزير معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي، كان من ارتفاع القدر، واتساع الصدر، وعلو الهمة، وفيض الكف على ما هو مشهور به، وكان غاية في الأدب والمحبة لأهله. وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة والضائقة، وكان قد سافر مرة، ولقي في سفره مشقة صعبة، واشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً:
 

ألا مـوت يبـاع فأشتـريـه *** فهذا العيش ما لا خيـر فيـه
ألا موت لذيـذ الطعم يأتـي *** يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصـرت قبـراً من بعيد *** وددت لـو أننـي ممـا يليـه
ألا رحم المهيمن نفس حـر *** تصـدق بالوفـاة على أخيـه


وكان معه رفيق يقال له: أبو عبد الله الصوفي، وقيل أبو الحسين العسقلاني، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه، وتفارقا. وتنقلت بالمهلبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور، وضاقت الحال
برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم، وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه:
 

ألا قل للوزيـر فدته نفسـي *** مقالة مذكر ما قد نسيـه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش *** ألا موت يبـاع فأشتريـه


فلما وقف عليه تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 261]. ثم دعا به فخلع عليه، وقلده عملاً يرتفق به. ابن خلكان وفيات الأعيان 2/125.


قال الأبشيهي: (فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأمنى المواهب، لما أمر الله تعالى به رسله ذوي الحزم وسماهم بسبب صبرهم، أولى العزم وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم، وسؤالهم، ومنحهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم، فما أسعد من اهتدى بهداهم، واقتدى بهم، وإن قصر عن مداهم، وقيل العسر يعقبه اليسر، والشدة يعقبها الرخاء، والتعب يعقبه الراحة). انظر: المستطرف 2/149.

قال الشاعر:
 

ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله *** عند الإله وأنجاه من الجزع
من شد بالصبر كفـا عند مؤلمـه *** ألوت يداه بحبل غير منقطع


فاللهم اجعلنا من الراضين بقضائك، الصابرين على اختبارك وابتلائك، وأعقب لنا بعد الصبر فرجا، وبعد الضيق والعسر يسرا.

الكاتب: د. بدر عبد الحميد هميسة

التعليقات على منهج القرآن الكريم في مواساة المصابين

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
3465

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري