حقيبة سفري

حقيبة سفري بقلم: أماني سعد

    في أثناء تأملي في السماء غفوتُ، لم تكن غفوةً بالمعنى الكامل، لقد كنتُ بين الحلم واليقظة، أو ما يسمى "أحلام اليقظة"، ورأيتُ أنني أجهّز حقيبتي للصعود للسماء، وبحثت عن حقيبتي لأرى ما الذى أعددتُه لهذه الرحلة؟!..فإذا بي أتلقى المفاجأة!.

     في حقيبة سفري .. أفلامٌ ومسلسلاتٌ وبعضُ المحادثات اليومية، والنقاشات والجدالات غير الضرورية، وباقةٌ من ذكرياتٍ ولت مع الأهل والمعارف والأصدقاء، ونشاطاتٌ صيفية ترفيهية تخلو من خدمة المجتمع والناس، ولم يبقَ لى شيءٌ ... لا شيءَ اللهمَّ إلا عشر دقائق وأرحل ... أرحل للأبد.

باقٍ لي عشرُ دقائق على الرحيل ..

ماذا سأقول لربي؟ .. هذا عملي!

ماذا سأطلعه عليه؟!

ولا يوجد في حقيبتي إلا الترفيه وتمضية الوقت بلا عمل وكل وما ليس منه طائل!

وظللتُ أفتش في حقيبتي بشكلٍ هستيرىّ فلقد حان وقتي الآن .. وأخاطبُ نفسي في حنق وأقول: ما هذا يا نفسي؟! ما هذا الشح؟ .. أهذه فقط صدقاتي؟! .. جنيه؟! جنيهان؟! نظرةٌ واحدة حانية لمواساة إنسانٍ حزين؟! عطفٌ على خمسة مساكين؟! فقط خمسة مساكين طوال فترة حياتي؟! كيف سأذهب لربي؟! كيف أطلعُه على حقيبتي؟! .. كيف؟!!.

باقٍ لي ثماني دقائق على الرحيل ..

ماذا سأقول للرحمن؟ .. إننى لم أرحم!

ماذا سأقول للكريم؟ .. إننى لم أُكرم أحدًا!

ويلي من حقيبتي! إنها فارغة من الصدقات، فارغة من الرحمة.

    وأظل أُفتش فى حقيبتي بشكلٍ هستيرىّ فلقد حان وقتي الآن .. وأخاطب نفسي في ذل وأقول: ماذا فعلت بكبري؟! .. ولماذا لم أسامح أخوتي في الله؟! .. لقد كان أمامي عشرون فرصة للنجاة من غضب ربي ولم أنتهزها؛ فخاصمت جارتي "فلانة" لأنها نسيتْ أن تدعونى فى حفل تخرج ولدها، وكفرتُ بحق الجار وحسن الجوار، هذا الذى كان من الممكن أن يشفع لى عند ربي فيجيرنى من عذابه يوم القيامة. وقطعت الصلة بيني وبين أعز صديقاتي لأنها قالت لى كلمات لم تعجبني، وكان الله بحبنا لبعضنا سيظلني يوم القيامة تحت ظله .. يوم لا ظل إلا ظله. كذلك لم أنسَ لأخي عدم مساعدته لي عندما كنت فى حاجة فبادلته الشحناء والبغض، وكانت صلة الرحم ستجعلني أسير على الصراط فوق النيران فلا أقع.

ويلي .. لماذا امتلأ قلبى كِبراً ولم أعد أتسامح مع إخوتي فى الله وجيراني وصلة أرحامي، فلقد كانوا بالتأكيد سيكونون حلفاء لي في هذا اليوم العصيب.

باقى لى الآن ست دقائق على الرحيل ..

ماذا سأقول لربي المتكبر؟ .. إننى نازعتك الكبر!

ماذا سأقول للرحيم؟ .. أننى قطعت الرحم!

ماذا سأقول للرسول الهادي؟.. إنني أنكرتُ حق الجار! .. وتجاهلتُ وصية جبريل لسيد الخلق!.

     وأظل أفتش في حقيبتي بشكلٍ هستيريّ فلقد حان وقتي الآن .. وأخاطب نفسي في ندمٍ وأقول: لن ينفعَني ندمي اليوم على ما قصرت في حق الله، لم أُصلِّ، تركتُ الصلاة، لن ينظر الله أبدًا في حقيبتي فأنا لا أستحق أن ينظرَ في أمري، كانت أمي تدعوني لأصلي، وكنت أتهرَّبُ منها لأكلم صديقتي "فلانة" وابنة خالتي "علانة"، ولأرى الفيلم الأمريكي الخطير، والمسلسل الدرامي الجذاب، رحتُ أُثرثر وأضيع وقتي ساعاتٍ، ولم أدّخر لصلاتي لحظات .. هذه الصلاة التي كانت ستعينني كثيرًا على سفري اليوم.

باقٍ لي الآن أربعُ دقائق على الرحيل ..

ماذا سأقول للملك؟ .. لم أسجد لك ركعة!

ماذا سأقول للواحد؟ .. إنني لم أكن أوحدك في كل وقت!

ماذا سأقول للعليم؟ .. إنني لم أعلم أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا!

وأظل أفتش في حقيبتى بشكلٍ هستيريّ فلقد حان وقتى الآن .. وأخاطب نفسي في حسرة وأقول: جاءني فلانٌ لأساعده فى مصلحته فلم ألبˏ طلبَه وتهربتُ، بل وعطلتُ مصالح الكثيرين في عملي بالكسل! .. فلم أُنهˏ الإجراءات اللازمة لإتمام مصالح الناس وجعلتُهم ينتظرون شهورًا، ظلمتُهم، ظلمتهم بكسلي وعدم تحمُّلي المسئولية.

كذلك تركتُ مساعدة الكبير، وكنت أرى العجائز يحملن بقالتهن متثاقلاتٍ فلم أمد لهنَّ يدَ المساعدة، كذلك تركتُ أطفالي بدون أن أساعدهم فى حل واجباتهم الدراسية .. فأصابهم الإحباط، والشعور بفقد الأهمية، وذلك لألحق موعدي مع خبيرة التجميل، وما فائدة التجميل إذ لم يكن هنالك من جمال داخلي؟!.

باقٍ لي الآن ثلاثُ دقائق على الرحيل ..

ماذا سأقول للعادل؟ .. إنني ظَلمتُ!

ماذا سأقول للمغيث؟ .. إنني تركتُ الملهوف يغرق!

ماذا سأقول لصاحب الجمال؟ .. إنني فقدتُ - في داخلي - الجمال!

 وأظل أفتش فى حقيبتى بشكلٍ هستيريّ فلقد حان وقتي الآن..

 لكني في وقفة مفاجأة تذكرت.. نعم لقد تذكرت..

وخاطبت نفسي في فرحة وقلت: هذه ليست حقيبتي، هذه حقيبة أخرى، فلقد تداركتُ ما فعلتُ، لقد كانت لي وقفة مع نفسي ساعة تُبتُ فيها ورجعتُ إلى الله تعالى، وفتحتُ صفحةً جديدة معه، وأستغفرتُه طويلاً وسألته العفو والصفح ولم أرجع لما فعلت .. فأين حقيبتي الأخرى؟! هل صفح عني ربى؟ عن ظلمي لنفسي؟! ، فإذ بي أجد يدي تمسك القراءن، وتفتح صفحاته وتقف على سورة الزمر والتي بها "وعد بعفوَ ربي" إذ يقول تعالى فى كتابه الكريم: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فنسيت كل ما كان في حقيبتي القديمة .. وأيقنت بظني الخير فى ربي أنني سأجد عنده فى السماء حقيبتي الجديدة. ثم رحتُ أهلّلُ وأُكبِّر .. الله أكبر؛ إن شاء الله سأنجو .. الله أكبر؛ إن شاء الله سأنجو .. الله أكبرُ كبيرا.

باقٍ لي الآن دقيقتان على الرحيل .. لا أطيق الانتظار دقيقتين!

    اقبلني يا رب .. لي ربٌّ مثلك عظيمٌ ومازلتُ أعيش على الأرض!

سأحمل حقيبة سفري وأعدُّ الثوانى، فلى ربٌّ ودودٌ فى السماء .. ولقد اشتقت للقائه!

وأنادي بأعلى صوتي: يا أهلَ الأرض .. يا أهلَ الأرض .. لكم مكانٌ فى السماء أرحبُ من مساحةِ الأرض .. لكم الخلودُ فى النعيم فلا تخدعنكم مظاهرُ اللهو واللعب، فهذا متاعُ الغرور..

    هلمي يا ثواني فقد ذهبتْ الأماني .. هلمي يا حياتي فأنتِ الحيوان..

وجاءت ساعتي لتقبض روحي .. فأستيقظتُ من النوم .. أستيقظتُ من حُلم اليقظة وعلمتُ طريقي.

ليتنا كلنا نستيقظ من النوم .. ونسارع فى الخيرات .. ونُجهّز حقيبةَ سفرنا الطويل.

يقول تعالى في سورة "المؤمنون": (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{60}أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ{61}). صدق الله العظيم

أماني سعد - كاتبة فى فنون إدارة الحياة

AmanySaad.com

جميع الحقوق محفوظة للكاتبة أمانى سعد، لا يمكن نسخ أو نشر هذا المقال فى مواقع أخرى إلا بإذن كتابي من الكاتبة، وغير ذلك يعرض صاحبه للمسائلة القانونية، والتعويض عن الأضرار.

مراجعة لغوية أستاذ: محمد السخاوي

الكاتب: أماني سعد AmanySaad.com

د. أماني سعد كاتبة ومؤلفة مصرية، من أوائل الكتاب فى مجال التنمية الذاتية وفن إدرة الحياة، ولها بصمات مميزة من المقالات القيمة والتى نشرت فى العديد من الصحف والمجلات العريقة فى مصر؛ وعلى الشبكات الإخبارية على الإنترنت . لما يزيد عن خمسة عشر عاماً. وكانت أول من قدمت خدماتها الإستشارية للمئات من المهتمين بالتنمية الشخصية. ومنذ عام 2005 وهي تقدم مجهودات كبيرة من خلال الإطلاع والبحث فى مجال التنمية الذاتية وفن إدارة الحياة وقوة العقل الباطن لنشر مقالات وكتب ذات تأثير كبير؛ بهدف حث الأشخاص على تحقيق النجاحات فى كافة مناحي الحياة؛ دون الإخلال بمبادئهم فى الحياة. وهي صاحبة مبادرة العيش بالوعي والأمل.
التعليقات على حقيبة سفري (8)

أشرف عبد العزيزFriday, June 5, 2020

تحياتي وشكري الكبير لحضرتك .. لم اجد من كلمات توازي عملك العظيم .. جزاك الله خيرًا ......................... رد: شكرا أ. أشرف لكلماتك الطيبة، رفع الله قدرك. خالص تحياتي

سارة احمدSaturday, April 26, 2014

كلام غاية بالتأثير الحسي تحيا الانامل الراقية. .......... رد: شكراً لكلماتك الرقيقة. تحياتي

عمرTuesday, September 3, 2013

يعطيكي الف عافية على المقالات الرائعة. .... رد: شكراً أخي عمر لكلماتك الطيبة أعزك الله تعالى.

ثريا النقاشMonday, September 3, 2012

اشكرك كثيرا لقد أحييتي روحي وأنعشتيها واعطيتيني جانب آخر أرى منه الإيمان. هذا أجمل ماقرأت في حياتي. بارك الله أنفاسك وخطواتك وكل توجهاتك في الدنيا والآخرة. ........... رد: شكراً ثريا لكلماتك الطيبة فلقد كان لها نفس وقع مقالاتي عليكِ .... فأنتِ أيضاً بكلماتك تلك حمستني للمضى قدماً. تحياتي

خالدTuesday, July 31, 2012

كل الشكر لهذه الروح الجميله.

عبد الله بوشتافFriday, February 12, 2010

مني لكي كل الشكر والتقدير يا دكثوره اماني واتشرف بقراءة مقالتكي الجميلة وان شاء الله في ميزان حسناتكي وربي يفتح عليكي واني فخور بكتابتكي الجميله الرائعه وشكرا موفقك بإستمرار.

البوكريFriday, February 12, 2010

تحية طيبة . احييك جدا شي غير عادي اهتز له وجداني.

جنةThursday, December 17, 2009

شكراً يا دكتورة اماني .. هذا احلى مقال قرئته فى حياتى.

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
46573

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري