مقالات الوعىأسلوب الحياةالجمال › من وحي الجَمَال

"إن الله جميل يحب الجمال".. قاعدة نبوية ومقصد ديني كلي يدخل في كثير من فروع الشريعة، يدعو المسلم إلى تلمُّس الجمال في الكون، وطلبه في الحياة، وإيجاده في النفس، وتأمّله في الخيال عندما تنعدم صوره في الوجود.. ولا أظن نفسًا سوية إلا وهي تعشق الجمال، وتستروح مناظره، وتهفو إلى لطائفه سواء كان بالنظر إليه أو الاستماع لأعذب أصواته، أو الشعور بتناسق الحركات الوجودية ونعومتها، أو التلذّذ بشم أزكى الروائح وأطيبها، وغيرها من صور الجمال البهية التي أودعها الله في الكون البديع.. وعلى قدر التفاعل بين تلك الجماليات المتنوعة والأنفس السوية تظهر انعكاسات هذا التمازج الأخّاذ في الأفكار والسلوك، وعلى قدر قوّة تأثير الجمال في النفس تكون الأفكار أكثر قدرة على التناسب مع الواقع والتناسق مع سنن الحياة.

يقول مالك بن نبي: "فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال يوحي للإنسان بأفكاره، ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة".

وأتساءل أحيانًا: هل للجمال هذا الأثر الكبير على صنع الأفكار أو تقبّل الواقع لها؟.. بالتأكيد أن هناك أثرًا؛ ولكن هل هو مقصود في نفسه عند التنظير والتأصيل والتغيير، أو يأتي تابعًا من غير قصد لذات الجمال..؟! أعتقد أن أثر الجمال في التغيير كان حلقة مفقودة لم تعتنِ بها كثير من الجهود الإصلاحية المعاصرة خصوصًا الإسلامية، بدليل الجنوح عن الفنون والذوقيات، وعدم الاهتمام بإشاعة الوعي الجمالي في الحياة.

فإذا كان من المقرر أن من صفات الله تعالى الجمال والكمال، وأنه سبحانه يحب أن يرى أثر نعمه على عباده؛ أصبح من اللازم شرعًا وعقلاً أن يتفق مقصد المخلوق مع مقصد الخالق في خلْقه وصنْعه على تحقيق الروعة والحسن في الأمور كلها، وحتى يستقيم لنا هذا المعنى فلابد من توضيحه وتأصيله بضرب الشواهد من شريعتنا الغراء، ولعل من أعظم الأمثلة في ذلك: عناية الشريعة بالنظام والتنظيم في شؤون المكلفين كلها, فالصلاة لها أوقاتها المحددة وأداؤها المنتظم في جماعة، وكالصوم في أيامه وشروطه وغاياته المنضبطة، وكالزكاة في مقاديرها واكتمال أنصبتها الدقيقة، وكالحج في شعائره القولية والفعلية والقلبية، فهذه العبادات تأسر القلوب والأعين في جمال أدائها وروعة الامتثال لها من خلال فسيفساء التنوع الإنساني الذي زاد هذه المناظر روعة وإجلالاً.

كذلك عناية الشريعة بالإتقان في الأعمال والنظافة في الهيئات والأبدان كلها ملاحظ واضحة على مقاصدية الجمال في الظواهر والأشكال. فكيف والمسلم مأمور بالتفكر والنظر في جميل صنع الله في السماء والنجوم والأنهار والجبال والأزهار والدواب "ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون"؟! بل القرآن كله بجمال أسلوبه، وروعة ألفاظه، ويسر معانيه ما تطرب له القلوب والأسماع، وتنقاد له العقول والألباب؟! أليس في ذلك دلالة واضحة على مقاصدية الجمال حتى في الفكر والنظر والاعتبار؟!

إن كل هذه المعطيات الجمالية التي تكتنف المسلم في شعائره وعباداته، فضلاً عن كونها مغروسة في أعماق نفسه وفطرته لمؤثر قويّ في طباعه وأفكاره؛ فالجمال يزيد الطباع رقة وأدبًا لا جفوة في التعامل أو شدة في الرأي، ويذكي في الأنفس رغبة البحث عن جماليات الصور في الأحوال والأشخاص والوقائع لا على تصيّد الأخطاء القبيحة، والنظر في الزلل الخفي، وحفظ السقطات القاتمة، والعاشق للجمال تأنف نفسه أن تعيش في الوهن والهوان أو أن تكون ضعيفة منقادة أو ذليلة مرتابة.

لقد كانت صور الجمال في الجزيرة العربية مهبط الرسالة قليلة الوجود في البيئة؛ ولكن الإسلام زاد من خيالها في النفس حتى أصبحت عقيدة راسخة يشعر المؤمن بها من خلال جمال الجنة وروعة نعيمها الذي لا يتصوره عقل، ولم تره عين، ولم يسمع عنه بشر، فأدّى هذا الشعور إلى حضور هذه الصور الجمالية في العقول والقلوب إلى درجة أن يصيح أحد الصحابة: أنه يجد ريح الجنة من وراء أحد.
إن الهدف من وراء بيان مقاصدية الجمال في الشريعة والحياة هو التأكيد على ضرورة العودة إلى تلك القيم الجمالية التي ستُشيع في أنفسنا ومن حولنا مشاعر الحب واللطف، وتقضي على ندوب الكره والعنف التي ضيّقت وقتّرت وجه الحياة وأزّمت العلاقة بين الأحياء، ولعلها أن تزيد من فرص الحياة الكريمة والسعيدة بكل ما فيها من فرح ومتعة، وكم يحزنني أن الباطل المعاصر يظهر بأجمل الحُلل الخادعة، والحق الواضح يظهر نافرًا مشوّهًا بعيدًا عن الحسن، حتى أصبحت مشاهد القتل والعنف والحروب وغلظة الخطاب وكآبة الحال هي ما يميز أخبار المسلمين، ويصنع صورتهم في العالم، مع أن حقيقة الصورة المعروضة للدين أبهى من واقعنا المعاصر؛ فالنبي الأسوة -صلى الله عليه وسلم- كان في غاية الجمال، وكلامه في غاية الروعة، ولا يرضى أن تظهر شعيرة إلاّ على أجمل صورة؛ فبلال- رضي الله عنه- لم يكن صاحب الرؤيا في الأذان، ولكنه أستحق الصعود والبلاغ؛ لأنه أندى صوتًا وأجمل في الأداء، وكان دحية الكلبي مبعوث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض ملوك الأرض لجمال صورته وروعة بيانه.
فهل آن الأوان لجماليات الدين أن تظهر في بلاغنا، وتزيّن سلوكنا وتجمّل هيئاتنا؟!

الكاتب: د.مسفر بن علي القحطاني

التعليقات على من وحي الجَمَال

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
47868

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري