التخلف والتقدم عمليتان كبيرتان، لهما طابع التراكم البطيء، وحين يشعر الناس أنهم يعانون من شيء من التخلف يبدؤون في التفكير للتخلص منه، ويظنون في البداية أن الأمر سهل، ثم يتبين لهم أن الأمر ليس كذلك؛ لأنهم سيختلفون في معظم الأحيان حول تعريف التخلف وحول حقائقه ومظاهره في حياتهم، وحين يتجاوزن هذه المرحلة يجدون أن أمامهم مشكلة أخرى، هي تحديد الخطوة الأولى على طريق الخلاص أو رأس الخيط الذي ينبغي أن يمسكوا به.

ونستطيع القول: إن الناس لا يكادون يكفون عن التفكير في هذا الشأن.

كما أن مجالسهم تظل عامرة بالجدل والنقاش حوله، ومن النادر أن ينتهي ذلك الجدل إلى شيء محدد، لكنه يساعد على إنضاج الوعي.

أنا أود أن أساهم في هذا النقاش من خلال تقديم مقترحات لتحديد الخطوة الأولى أو رأس الخيط على صعيد الفرد، وعلى صعيد الأمة، مع الاعتقاد الراسخ بأن أياً منا لا يملك كلمة الفصل في هذا، لكن إذا لم نستطع الدخول إلى حمى الحقيقة، فشيء مفيداً جداً أن نحوم حولها.

1- إن كون أول آية تنزل على نبينا- صلى الله عليه وسلم - تشتمل على الأمر بالقراءة لدليل واضح على أن مشكلة العرب كانت عند بزوغ فجر الإسلام هي (الجهل): الجهل بالله تعالى- وبالأنفس وبالواقع وبطرق التقدم، وبعد دخول أمة الإسلام في نفق الانحطاط قروناً عديدة عاد الجهل مرة أخرى ليشكل الآفة العظمى التي تعاني منها الأمة اليوم.

الجهل كلمة كبيرة وذات دلالات معقدة، وقد يكون من الصعب علينا أن ندرك حجم معاناتنا منه إلاّ إذا حاولنا مقارنة أدوات التثقيف وموارده لدينا مع ما لدى الأمم الأخرى، وفي هذا السياق نجد المعطيات الآتية:

- نسبة إتمام الطلاب للمرحلة الابتدائية هي في حدود 98% في الدول المتقدمة و 50% في الدول الإسلامية.

- هناك (230) عالماً بين كل مليون مسلم و (5000) عالم بين كل مليون أمريكي.

- معدل توزيع الصحف اليومية في باكستان هو (23) صحيفة لكل ألف مواطن، ومعدل توزيع الصحف اليومية في سنغافورة هو (460) صحيفة لكل ألف مواطن.

- في بريطانيا يتم توزيع (2000) كتاب لكل مليون مواطن. في مصر يتم إصدار (17) كتاباً لكل مليون مواطن.

- ليس هناك أي جامعة إسلامية في قائمة أفضل (500) جامعة في العالم، على حين أن بينها ست جامعات إسرائيلية.

أرقام كثيرة من هذا النوع تكشف عنها المقارنة بيننا وبين الأمم الأخرى على صعيد العلم والتعليم. اليهود بمكرهم وجشعهم وسعيهم المستمر إلى إفساد المكان الذي يعيشون فيه ظلوا يعانون من القمع والتشرد والنبذ الاجتماعي.

وبعد معاناة دامت قروناً صار لديهم ما يشبه الإجماع على أن التعمق في العلم والإبداع في توليد المعرفة وإيجاد التطبيقات لها هو رأس الخيط الذي ينبغي أن يمسكوا به من أجل التخلص من الوهن الذي يخترق كل مفاصل حياتهم.في كندا على سبيل المثال كانت نظم التعليم تمنع أي يهودي من التمكن من الدراسة في كليات الطب، وفي عام 1942 استطاع شاب أن يدخل إحدى كليات الطب هناك عن طريق إخفاء انتمائه الديني أو عن طريق آخر، وقد تألق هذا الطالب في دراسته حتى تم اختياره معيداً في الكلية، وبعد سنوات صار رئيساً لأحد الأقسام، وبعد سنوات صار عميداً للكلية التي درس فيها، وتمكن حينئذ من فتح باب كلية الطب أمام الطلبة اليهود، ومضت الأيام وإذا المحرومون من دراسة الطب صاروا يقودون هذه المهنة العلمية بقوة وبحضور شديد، واليوم تجد اليهود هناك مسيطرين على عمادات كليات الطب، وعلى إدارات المستشفيات والمراكز الصحية، ولم يكن ذلك بسبب العبقرية المزعومة لليهود، وإنما بسبب إدراكهم في وقت مبكر أن طريق الخلاص من الذل والخنوع والتشرد الجماعي هو العلم والبحث العلمي والريادة الأكاديمية، وقد تحول اليهود بفضل العلم إلى رموز عالمية مشهورة، ويكفي أن نقول إن اليهود الذين لا يصلون إلى خمسة عشر مليوناً قد حصلوا خلال قرن على (180) جائزة من جوائز (نوبل) الشهيرة، وهذا شيء لم يحققه أبناء أي ديانة أخرى إذا أخذنا بعين الاعتبار ضآلة عدد اليهود بالنسبة لأبناء الديانات الكبرى.

مهما كان الوضع الذي فيه أي فرد مسلم، ومهما كانت المرحلة العمرية التي يمر بها فإن الإقبال على القراءة والتعلم بشغف واهتمام وتركيز يشكل وجهاً مهماً من وجوه البداية على طريق الخلاص من التخلف والسير في اتجاه الازدهار الشخصي. وإن في إمكاننا القول: إن الشباب المسلم ينقسم اليوم إلى ثلاثة أقسام:

قسم هو الأكبر- يقف من المعرفة موقف اللامبالي والمنصرف إلى الاهتمام بأمور كثيرة لا تمت إلى العلم بأي صلة.

قسم آخر أصغر من الأول- يهتم بنقل المعرفة واستيعابها والاستفادة منها.

- قسم ضئيل جداً- ينتج المعرفة ويُبدعها ويحاول إيجاد تطبيقات لها. وإن رأس الخيط بالنسبة إلى جماهير المسلمين يتمثل في التحول من القسم الأول إلى الثاني.

حيث لا ينبغي لأي واحد منا أن يقف موقف المتفرج؛ والعالمُ من حوله قد اتخذ من العلم منطلقاً لتغيير العالم. ويتمثل رأس الخيط بالنسبة إلى القسم الثاني بالانتقال إلى القسم الثالث حيث يكون البحث العلمي الدؤوب مفتاحاً لإنتاج المعارف الجديدة وتوفير تطبيقات للقديم منها.

الكاتب: د. عبد الكريم بكار

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
71455

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري