أستطيع اليوم - و قد أشرفت علي الستين – أن القي علي تجاربي نظرة فاحصة تتضح معها المبادئ التي اعتمدتها فيما أنجزت من عمل, و العبر التي خرجت بها من تلك المعركة المتصلة التي نسميها الحياة.
كان والدي معلمي الأول.. و لم انس يوما قصة رواها لي و أنا حدث, فرسخت في ذهني من ذلك الحين و أعانتني في أحرج الأوقات. قال: " ركب جندي بريطاني حمارا في طريقه إلي ثكنته بالعباسية.. و كانت الحمير من وسائل الانتقال المألوفة. و كان صاحب الحمار و هو يعدوا خلفه يوجه إليه ألوانا من السباب ثقة منه أن الجندي لا يفقه شيئا من هذه الألفاظ.. و لكن أحد المارة أستوقف الجندي, و قال له: أتدري ما يقوله صاحب الحمار ؟ انه يسبك و يصفك بكذا و كيت.. فما كان من الجندي إلا أن سأله: و هل هذه الألفاظ تمنعني من الوصول إلي الثكنة؟ قال: لا طبعا.. فقال: إذن دعه يقل ما يشاء فإنما يهمني أن أصل إلي حيث أريد "
تعلمت من هذه القصة أنه ينبغي للإنسان أن يعرف هدفه, فإذا عرفه و حدده مشي إليه في ثقة و إطمئنان دون التفات إلي ما يعترض طريقة من المنغصات و المثبطات.. فليس النجاح بعيد المنال بالقدر الذي يراه شباب اليوم و إنما سبيله الأكيد تحديد الهدف و تسخير الوسائل الفعالة لبلوغ ذلك الهدف, و يندر أن تجد شابا يعرف ما يريد و يصرف له جده و نشاطه دون أن يصل يوما إلي الغاية التي ينشدها. و إنما يفشل أولئك الذين يريدون الغايات الجميلة دون أن يبذلو في سبيلها ما تقتضيه من جهد, ينفق بلا حساب, و عرق يتصبب يوما بعد يوم, بل ساعة بعد ساعة.
ثم أن طاقة الإنسان محدود, فما يصرف منها في الكلام و النقاش أو في الغل و الحسد و البغضاء, أنما يسقط من حساب العمل الذي يستطيع إنجازه.. و من ثم ندرك حكمة عمر بن الخطاب إذ قال: "إذا أراد الله بقوم سوءا سلط عليهم الجدل و منعهم العمل".
أصدق نفسك
و ثمة حكمة كانت لها ألأثر الأول في حياتي, و هي قول شكسبير في رواية هاملت:" أصدق نفسك تصدق الناس جميعا". فالإنسان ابرع في خداع نفسه منه في خداع الناس. و من راض نفسه علي مواجهة الواقع-مهما ألمه- فقد تسلح بأفعل الأسلحة في نزاع الحياة.
و قد يبدو من السهل أن يكو ن الإنسان صادقا مع نفسه و لكنه من أشق الغايات و لا يتأتى إلا بالمران الطويل. فالإنسان نزوع بطبعه إلي تصديق ما يريده و الاقتناع بما يريح ذهنه. أما مواجهة الحقيقة المرة, و أما مجابهة الواقع المؤلم فدون ذلك ترويضا شاقا للفكر و تضبيع طويل الأمد لنزعات النفس.
أعذر الناس
و حكمه أخري كان لها أبلغ الأثر في حياتي, و هي القول المأثور: "أعقل الناس أعذرهم للناس" فالحوافز الأساسية تكاد تكون واحدة في البشر. و إنما يختلف فريق منهم عن فريق باختلاف الأحوال التي نشأوا فيها, فمن أعسر العسير علي من عاش في بحبوحة النعمة أن يحس ما يحسه المعوز الذي لا يحصل علي ما يتبلغ به إلا بشق الأنفس.
و قد يكون من التعسف – أو في الأقل من التفكير البدائي – أن تقام حدود تفصل بين طوائف الناس.. فالفروق بين الأخيار و الأشرار, و بين العقلاء و المخبولين, و بين الصادقين و الكاذبين.. ليست بالقدر الذي يبدوا لأول وهلة. و في كل منا, عناصر – بنسب متفاوتة – من تلك النزعات جميعا. و لو كان أحدنا مكان من نسميه شريرا أو مخبولا أو كاذبا و تأثر بما تأثر به منذ نشأته, لما تصرف في الغالب إلا كما تصرف ذلك الرجل الذي يزدريه.
و قد تعلمت من الحياة أن نصيب الفكر و المنطق من أعمال الناس أقل بكثير مما يدعون.. فهم مسيرون بغرائزهم و مصالحهم في المقام الأول و لكنهم يحتالون علي الفكر و المنطق لكي يستسيغوا ما يفعلون, و لكي يستسيغه أيضا سائر الناس.
تسامح مع المرأة
و أود أن أقول كلمة عن المرأة فهي نصفنا الذي لا غني لنا عنه, و لعلي اغضب فريقا من السيدات فيما أنا قائله, و لكني أقوله و أمري لله: من الخطأ – بل من الظلم في نظري – أن يعامل الرجل المرأة علي نفس القواعد التي يعامل بها زملائه من الرجال.. فنظرها إلي الحياة غير نظره و منطقها غير منطقه, و لا ريب أن أنوثتها تسيطر علي حياتها, كما أن تصرفاتها مطبوعة علي الدوام بطابع عواطفها و انفعالاتها.
علي أنه ليس فيما تقدم ما يهبط بمكانة المرأة.. و إنما ينقص من شأنها أن نعتقد أنها صورة ثانية للرجل. فقد جعلت لها الطبيعة مجالا لا يقل شأنه عن مجاله, و الأمر الأجل أن تعرف حدود هذا المجال فلا تتعداه.
و إذا أدرك الرجل هذه الحدود أمكنه أن يكون علي أتم الوفاق مع المرأة.. و خصوصا إذا تمسك بالقاعدة التي و ضعها اوسكار وايلد – و إن يكن فيها بعض المغالاة- و هي أن المرأة قد جعلت لكي يحبها الرجل لا لكي يفهمها.
هذه طائفة من العبر التي خرجت بها من حياتي الماضية و لو عشت عشرين سنة أخري و سئلت مثل السؤال الذي أجيب عنه اليوم فهل يا تري أجيب مثل ما أجبت؟
لست ادري. فقد علمتني الحياة أيضا إلا أومن برأي أيا كان علي أنة حقيقة غير قابلة للتعديل, فسنة الحياة ألأولي النمو و التجدد..و العاقل هو من فهم هذه السنة, فكان دائما مفتح الذهن مستعدا لتقبل كل رأي جديد.
نبذة عن الكاتب:
ولد السيد إميل زيدان عام 1893م, حاز شهادة الثانوية في مصر ثم بكالوريوس العلوم من جامعة بيروت الاميريكية ثم ليسانس الحقوق, و قد والي إصدار مجلة الهلال بعد وفاة والده سنة 1914م ثم أسس بالاشتراك مع أخيه الأستاذ شكري زيدان عدة مجلات أسبوعية و شهرية منها: كتاب الهلال و المصور و ايماج الفرنسية كما أسس قسما ثقافيا بدار الهلال.
الكاتب: الأستاذ/ إميل زيدان
جميع الحقوق محفوظة لموقع د. أماني سعد - amanysaad.com 2008-2021 ©
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!