اصمت حتى أراك

ربما لو قُيِّض لسقراط أن يعيش بعضًا من هذه الأيام، لأعاد التفكير في عبارته «تكلَّم حتى أراك»، وأدرك أنها أصبحت لعنة، مع شلالات الكلام المنهمرة من كل مكان؛ من الفضائيات والصحف والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي والكتب؛ كلام … كلام … كلام لا ينتهي.

جملة سقراط الشهيرة قالها — كما قيل في الأثر — عندما كان في جلسة رُوحية مع عدد من طلابه يتناقشون حول قضية من القضايا، وجاء أحدهم وهو يتبختر في مشيه، يزهو بنفسه، وسيمًا بشكله، فنظر إليه سقراط مطوَّلًا، ثم قال جملته الشهيرة التي أصبحت مثلًا. لكن يبدو أن الجميع الآن قرَّر تنفيذ وصية سقراط وبدءوا في كلام لا ينتهي، جملة طويلة واحدة لا أول لها ولا آخر، الجميع يتكلَّم في نفس الوقت، ولا أحد يسمع حتى يحكم أو يرى أو يقيِّم من يتكلَّم.

وربما أكثر ما يعبِّر عن اللحظة الراهنة القصيدة الشهيرة التي قالها الشاعر المصري الراحل بيرم التونسي قبل عقود عن الغناء، لكن يمكن تطبيقها الآن على كل كلمة تُقال:

يا أهل المغنى دماغنا وجعنا … دقيقة سكوت لله

داحنا شبعنا كلام ما له معنى … ويا عين ويا ليل ويا آه

وما قاله بيرم ينطبق على كل ما يقال الآن، جرِّب مثلًا أن تدخل على موقع تويتر، أو موقع فيس بوك، وانظر بعينٍ ناقدة إلى ما يقال، آلاف الكلمات التي تُسكَب لكنها لا تقول شيئًا، كلام لإشباع غريزة الكلام فقط، لكنه لا يقول شيئًا. كل شخص يسعى للكلام ليقول إنه موجود، دون أن يتحقَّق ممَّا يقوله. كل شخص يحجز مكانًا في هذا العالم بالكلام، وليس بمعنى الكلام. ليس مطلوبًا من كل شخص أن يتحوَّل إلى حكيم وفيلسوف وشاعر ومبدع، لكن مطلوب منه أن يتوقف قليلًا ويراجع ما يكتبه أو يقوله، إنه كلام لتمضية الوقت، لقتله، لقتل القيمة الحقيقية للكلمة، رغم أن هناك عشرات الأمثال العربية والأجنبية التي تتحدَّث عن أن الكلام من فضة والسكوت من ذهب، ولسانك حصانك، وأن الله خلق لنا أذنين وفمًا واحدًا لنسمع أكثر مما نتكلَّم، وإلى آخر هذه الأمثال التي لا مجال لها الآن.

وإذا كان هذا الأمر بالنسبة للأشخاص العاديين، فما بالك بالأشخاص المسئولين! لا أقصد بهم السياسيين فقط، ولكن أقصد من يملِكون جمهورًا — ولو قليلًا — أيًّا من كانوا، فعندها تتحول الكلمة إلى حُكمٍ بالإعدام على شخص، وتقييم لأي شيء وكل شيء، هنا تتحول الكلمة إلى رصاصة.

آفة الكلام ليست فقط في عدم تدبُّر ما يقال، لكنها في عدم الاستماع إلى الآخر؛ لأنه لا مجال لأن تستمع إلى شخص وأنت تتكلم، أما الآفة الثانية فهي أنه مع كثرة كلام الشخص لا يصبح لكلام الآخرين معنًى؛ ولهذا كثرت المزايدة في مجتمعاتنا، كل شخص يملك «لسانًا» يعتقد أنه أفضل من الآخر؛ لذا لا يمانع في أن يهاجم ويشتم من يعارضه، مع أن «اللسان» خُلق للنقاش، وليس «للقتال».

الأمر لا يتوقَّف على مَن لديهم جمهور يتابعهم، بل إن الجمهور ذاته أصبح يُدلي بدلوه، يُصدر الأحكام القطعية، ادخل إلى أي موقع على الإنترنت، واقرأ تعليقات القراء على مقالات القراء وأخبار الصحف، ستجد نفسك أمام نوعية أخرى من الكلام، نوعية تصدر أحكامًا فورية بالخيانة والعمالة والغباء والجهل، دون تدبُّر أو تمهُّل أو تقييم حقيقي لما يحدث. كيف حدث هذا؟ كيف بدأ شلال الكلام هذا في انهماره حتى كاد أن يُغرِقَنَا، إن لم يكن أغرقنا بالفعل؟

«ملء الهواء» هو مصطلح يعرفه مَن عمل في الفضائيات المصرية، ويقصد به أن كل فضائية تبث ٢٤ ساعة كل يوم عبر الأثير (الهواء)؛ لذا تحتاج إلى أن تملأ هذا «الهواء» بمواد برمجية؛ مسلسلات أو أفلام أو برامج تذاع على الهواء مباشرة، يخرج فيها المذيع لمدة ثلاث ساعات يتكلَّم حتى «يملأ وقت الهواء» المخصص له، فيقول كل شيء ويصدر أحكامه القطعية ليزيد جمهوره، ليس مهمًّا ما يقول، لكن المهم أن «يملأ الهواء»؛ ألَّا تشعر القناة بعجزه عن تمضية الوقت بالكلام. مئات الفضائيات تملأ الهواء بكلام، كلام فقط، مجرد كلام فقط ليس له معنى. الأمر نفسه ينطبق على الصحف، التي يجب أن تسوِّد صفحاتها كل يوم حتى تَصدُر للقارئ، ليس مهمًّا ما الذي ستقدمه، لكن المهم ألَّا تقدم صفحة فارغة للقارئ.

وقديمًا قال ابن مالك في ألفيته الشهيرة، واصفًا الجملة المفيدة، وسانًّا قاعدة لغوية ومعرفية بسيطة:

كلامنا لفظ مفيد كاستقِم

اسم وفعل ثم حرف الكلم

لكن المشكلة الآن أن الجملة المفيدة تتكوَّن فعلًا من «اسم وفعل ثم حرف الكلم»، لكنها ليست لفظًا مفيدًا، تبدو جملة فارغة لا تقول شيئًا، قعقعة بلا طحن، ولا تضيف شيئًا؛ لأنها كلام، محض كلام، تمامًا مثل ألفية ابن مالك ذات القيمة العالية في شرح علم النحو، لكنها في النهاية نَظْم وليست شعرًا؛ لأنها أخذت شكل الشِّعْر وليس جوهره. وهو ما يفعله الكلام الآن، يأخذ شكل الكلام، صوته، طريقته في النطق، لكنه عبارة عن فقاقيع صابون فارغة، دخان ما يلبث أن يتبدَّد في الهواء.

حتى هذا المقال مجرد كلام، حروف متراصَّة تصنع جُملًا، تصنع مقالًا، تنضم إلى موقع، تصنع فضاءً إلكترونيًّا، يزخر بآلاف ومئات وملايين المقالات الهائمة في هذا الفضاء السيبري، يخرج معظمها دون أن يفكِّر في إضافة شيء إلى قارئ، لكنها فقط، تطفئ ظمأ الرغبة الجارفة، والشهوة الحارقة إلى الكلام، كلام إلى جانب كلام، إلى جانب كلام، كلام أكثر من الهواء، أكثر مما تحتمل وتريد الحياة ذاتها.

ربما تكون الجملة الأكثر إفادة الآن هي: «اصمتوا.» اصمتوا قليلًا، لحظتها ربما نكتشف إنسانيتنا الضائعة تحت أطلال الجُمل المتراكمة، ربما نلتفت قليلًا إلى الأطفال الذين يموتون، والمرضى الذين لا يجدون العلاج، والمدن التي دمَّرتها الحروب، استمتعوا بلحظة الهدوء، انعموا بالسكينة. اصمتوا قليلًا حتى نستطيع أن نراكم وترونا، أيها الضائعون مثلنا في متاهات الكلام التي لا تتوقَّف أبدًا.

الكاتب: محمد أبو زيد - هنداوي دوت كوم

التعليقات على اصمت حتى أراك

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
57771

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري