طلاق بعد الستين!

تتعدد وجهات النظر حول سر السعادة الزوجية، فحين يرى البعض أن "طول العشرة" كفيل ببناء السعادة والتقارب النفسي بين الزوجين، وإلغاء كافة الحواجز بينهما، يبرز لنا الواقع وجهًا كالحًا لصور عديدة، لم يزدها اختلاف الليل والنهار إلا تنافرًا وشقاقًا، وتراكمًا لظلمات المشاكل بعضها فوق بعض، فتصير الحياة جحيمًا دائمًا من البؤس والجفاء!
ولدينا هاهنا إحداها، فرغم عمر الكفاح المشترك الطويل، إلا أن حياة "أبي صالح" وزوجته كانت مشحونة بالمشاكل والتوتر، تتخللها أيام كثيرة من القطيعة والخصام، حتى بعد أن كبر أبناؤهم وتزوجوا!
وفي نهار يوم قائظ، أخذ أبو صالح يرن جرس منزله بإلحاح ولكن ما من مجيب، فاشتدت أعصابه وأخذ منه الغضب كل مبلغ، فلم يكن منه بعد أن فتحت زوجته الباب أخيرًا، وهي التي لم تسمعه من قبل، إلا أن رمى في وجهها كلمة الطلاق البائن إلى الأبد، ففرحت الزوجة كثيرًا بشهادة الحرية هذه، ورفضت كل محاولات أبنائها وأحفادها للعودة إلى "شايبها"، وهي الآن تنعم بحياة مستقرة هانئة في منزل مستقل، بعيدًا عن توتر ما يزيد على ثلاثين سنة!
أما "أم عبد الواحد"، فقد طلبت الطلاق وأصرت عليه رغم تجاوز عمر "آخر العنقود" الثلاثين، ورغم العدد الكبير من الأبناء والأحفاد وسنين العمر المشتركة، لكنها لم تحتمل الوضع، فزواج "أبي عبد الواحد" من أجنبيات لمرات عديدة، وإهمال النفقة والحقوق، جعلها تقسم بالله وهي تشد رحالها إلى مدينة أخرى، أنها لن تبقى معه يومًا واحدا "لئلا تحد عليه"!! فهو لا يستحق، خاصة وقد أعطاها ورقة الطلاق بنفس راضية غير آسفة!!
هذه الظاهرة الغريبة التي شاعت بين المجتمع في الآونة الأخيرة، وهي الطلاق بين كبار السن من الأزواج، بعد عقود من الرباط الزوجي وعدد من الأبناء الكبار، وبعد قصة كفاح وحياة مشتركة، لتعبر بقوة عن هشاشة بالغة في العلاقة رغم السني الكثيرة لها، ونما عن خلل في أساس العلاقة قامت عليه فكان بناؤها متداعيًا سرعان ما انهار وتحطم..
ما السبب في انفصال هذه الزيجات التليدة؟ ولماذا انتشرت هذه الظاهرة وما مدى ذلك؟ وما حقيقة الألفة الزوجية إذًا وما مقوماتها حتى لا تنتهي بعد مدة بمأساة؟ وما تأثير هذا الانفصال على أفراد الأسرة؟ وكيف يكون للتوعية أثر نافع في منع انفصام هذه الروابط، وعلاج المشاكل التي تعصف بها؟

هذه هي الأسباب!
يشاركنا الشيخ د.إبراهيم بن صالح الخضيري القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض في أسباب هذه الظاهرة، فيشير بدءًا إلى أهمية الحديث عنها، فهي أمر حساس ويعاني منه القضاة كثيرًا، ثم يعدد أسبابه قائلاً:
1) معاصي الله عز وجل المنوعة.
2) السحر.
3) الزواج بأجنبية.
4) الضعف الجنسي.
5) الأولاد في سلوكياتهم وانحيازهم إلى أحد الطرفين.
6) الإعلام السيئ والسهر أمام الفضائيات ثم الانحراف الجنسي وضياع الحقوق الزوجية.
ونتناول بالنظر بعض هذه الأسباب مفصلة، لنلحظ مدى تأثيرها على الواقع المرير الذي تشهده كثير من العلاقات الطويلة.
نرى أن الانحراف الديني لأحد الزوجين له مؤثرات سلبية عليهما؛ فالسهر والسفر للخارج والشرب وتضييع الصلاة، معاص عظيمة تخنق بشؤمها كل برعم سعادة أو نسمة أنس، ويجعل البيت لقمة سائغة للشياطين توقد نيران الشقاء فيها وتثير الخصام والمشاكل.
وإضافة إلى ذلك، نرى أنه مما يزيد الإحباط كون الزوجين كبارا في السن، وأولي مسؤولية وأولاد، فما ينتظر منهما هو الرزانة والتعقل والنظر المتوازن، لا اللهث وراء المعاصي والمنكرات، فيلاشي كل شعور بالصبر وانتظار ركود فورة الصبا، والتي غالبا ما تكون الأمل للأزواج الشباب حين ينحرف أحدهما عن الجادة.
أما الزواج بأجنبية، فهو سبب منتشر ومهم، فلقلة تكاليف الزواج هذا ومميزاته، نجد كبار السن من الأزواج يلهثون خلفه ضاربين بزوجاتهم وحقوقهن عرض الحائط، فتتجرع المسكينة غيرتها وأسفها مرارة وحسرة، وهو غافل في السعادة الجديدة والشباب العائد، ثم لا يجد غضاضة في الانفصال عن أم أولاده طلبًا للراحة من إزعاجها ونصح المحيطين بشأنها!
كما تشاركنا الأستاذة هيفاء الميموني، وتوضح أسباب الطلاق بعد الستين بقولها:" لقد شرع الله الطلاق لعباده رحمة منه، لفض زواج قد استحال استمراره، ولم يكن مرتبطًا بعمر أو بسن، غير أن المستغرب هو الطلاق بعد عشرة طويلة!! فأين هو السبب الذي أدى إلى الطلاق خلال هذه السنوات الطويلة؟ هل هو أمر قد طرأ على الحياة أو معاناة مستمرة أم ماذا؟!
برأيي الشخصي أرى أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة:
1- المشاكل الزوجية المتراكمة، فقد تمضي العشرات من السنوات بين الزوجين ولا يكاد أن يخرجان من مشكلة أو خلاف حتى يقعان في أخرى وتبقى هذه الملفات مفتوحة عبر الزمن متراكمة يؤزم بعضها بعضاً غير أن الأبناء وصغر سنهم يشكل عائقًا دون هذا الانفصال فلما زال هذا المانع حدث ما كان منطقياً طوال هذه السنين.
2- هوان أمر الطلاق: ففي عصر تشكل وسائل الإعلام شخصية المجتمع وثقافته أصبحنا نلمس هوان شأن الطلاق عند الناس تفاعلاً مع ما يُطرح من صور الطلاق وتفشيه وهوان أمره عبر وسائل الإعلام المختلفة.
3- الخطأ البشري: فلماذا نستبعد بشرية الزوجين واحتمال تسرعهما في اتخاذ مثل هذا القرار؟! فقد يطرأ شجار فيبادر الزوج على أثره بالطلاق أو تبادر الزوجة بطلبه، فهما بشر يغضبون ويوّزهم الشيطان وحتى إن تقدم بهم العمر وطالت سنوات العشرة.

وأين الألفة؟!
ما يعجب منه المرء حقيقة هو عدم حصول الألفة رغم العشرة الطويلة والحياة المشتركة، فالزواج ليس رباطًا جسديًّا فحسب، إذا زالت أصر هذا الرباط تداعى الزواج وانهار؛ بل هو كما يؤكد الشيخ د.إبراهيم الخضيري: "ألفة الزواج هي (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، و(لا تنسوا الفضل بينكم)، و(وجعل بينكم مودة ورحمة)، و"رفقا بالقوارير"، و"واستوصوا بالنساء خيرا"، و"خيركم خيركم لأهله"، فالاستقامة على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيق العبودية لله والصبر على المحن والفتن هي مقومات الألفة الزوجية.
ونضيف إلى ذلك، أن حسن الخلق وسمو النفس، والشكر لرفيق الدرب ومعرفة فضله، وترك الغيرة من الناس والتنافس غير الشريف، والرضا بالقضاء والقدر، ومعرفة إنتاج السعادة من الذات والنظر بمنظار ملون مشرق إلى الحياة، كل هذه عوامل مهمة في حسن العشرة ودوام الألفة.

كيف نوعيهم؟!
ويتابع الشيخ د.إبراهيم الخضيري حديثه، فيوضح أهمية توعية الناس بخطر المشاكل المتراكمة المؤدية إلى الطلاق بعد الستين، داعيًا إلى استصلاح التعليم والإعلام والدعوة، ومعالجة الفقر، وإنارة عقول الناس بالعلم المكافح للجهل.
كما أنه حين ينتشر الشريط الإسلامي الذي يوعي الناس على أسس قويمة من العلم والنصح، والتعاون على الخير وعبادة الله تعالى حق العبادة، وهيمنة الوازع الديني على دوافع الناس وتصرفاتهم، يكون للتوعية حينئذ أثرًا فاعلاً..
ويؤكد الشيخ إبراهيم الخضيري على أهمية معالجة ظلم الأزواج حين يعدد أو حين يجعل سفره للخارج على حساب قيمه وماله وعياله، أوحين يجعل همه الأكبر رفقاء السوء، وكذلك حين تصغي المرأة للمفسدات من النساء وتطالب الزوج بما فوق طاقته.
إذًا فهذا الموضوع المهم، مسؤولية المسجد وإرشاده، ومؤسسات التعليم، والإعلام بوسائله، مع التركيز على دور الخطباء في توعية الناس بالحقوق الزوجية وحسن العشرة وخطر الطلاق، خاصة ونحن نرى أن أهم رسالة دينية توجه إلى كبار السن – الأميين غالبًا – هي خطبة الجمعة ودروس المسجد.
كما يقع على عاتق الأبناء كذلك مسؤولية الإصلاح بين الوالدين، وتطييب خواطرهما، وإرشادهما بالأسلوب المناسب إلى فضل الوئام وحسن العشرة، وطرق ذلك.
نسأل الله تعالى أن يمن بفضله على كل بيت مسلم، سرورًا واستقرارًا وسعادة وألفة.

الكاتب: منال الدغيم

التعليقات على طلاق بعد الستين!

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
64146

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري