حينما كنت أتجول في معرض الكتاب الجامعي الذي يقام في مطلع كل فصل دراسي بكلية الآداب هالني الكم الهائل من كتب تفسير الأحلام المعروضة على الأرفف، ومما زاد دهشتي أن المعرض أقيم في الأصل لتيسير الحصول على الكتب الدراسية المقررة، وهذا ما دعاني لسؤال أحد الباعة عما إذا كان «تفسير الأحلام» قد أصبح مقررا دراسيا الزاميا يستدعي عرض هذه الكمية الكبيرة من كتبه فأجابني البائع مبتسماً بقوله: ان الطلاب يستغرقون في النوم أثناء المحاضرات فتتراءى لهم رؤى وأحلام متنوعة، فإذا ما استيقظوا هرعوا الى تفاسير الأحلام لمعرفة تأويل رؤاهم!

لقد أصبحت صناعة تفسير الأحلام تجارة رائجة هذه الأيام، فمطابع تلفظ كل يوم آلاف النسخ من كتبها، وجرائد تخصص صفحات كاملة رعاية لشؤون الحالمين من قرائها، وبرامج فضائية تتولى تفسير الأحلام على الهواء على طريقة التصوير الفوري أو وجبات «التيك أوي» حتى التقنيات الحديثة مثل الرسائل النصية الخلوية ومواقع شبكة الانترنت ضربت بسهمها في هذه التجارة الرائجة في بلادنا العربية! ويجد العاقل نفسه في هذه الموجة العارمة غريبا، ولكم تساءلت في نفسي عن سبب ندرة أحلامي وأنا أرى من حولي يعانون من اسهال حاد في الرؤى والأحلام!

الأمر في الحقيقة يستدعي وقفة بل جلسة متأنية للبحث، عما تخفيه هذه الظاهرة المتنامية من حقائق مرعبة، فهل اصبحنا حقا أمة الأحلام؟ ليس في الخيال والأحلام ما يضير، فكم من انجاز كبير كان في الأصل فكرة حلم، لكن ما يجري الآن لا يدور في فلك الحلم الايجابي الذي يقترن بالأمل والعزم على تحقيقه، حين يصحو الحالم من نومه وقد ملأ النشاط نفسه وعمّر التفاؤل قلبه وأخذ في التفكير والتخطيط لتحقيق حلمه، ولكن ما نراه لا يمثل إلا تنفيسا عن العجز والاحباط الذي يعانيه الحالم في واقعه المرير، فيجد في الحلم مهربا من ذلك السجن، وكثيرا ما يقوم الحالم بطريقة لا شعورية باستدعاء الحلم عبر التفكير المستمر فيه، وهو ما يعبر عنه بحديث النفس، فكثير من الهموم والمشغلات تلازم الانسان في يقظته ونومه لا تفارقه للحظة! فوفرة الأحلام دليل على تعاظم القلق النفسي وتنامي الضغوطات الحياتية على الحالم.

ومما هو جدير بالرصد والملاحظة، ان النساء يمثلن القطاع الأكبر من المولعين بتفسير الأحلام، وهو ما يعكس رغبة المرأة الملحة باستشراف المستقبل والتنبؤ بما تحمله الليالي، فمن المعلوم اهتمامهن بقراءة الطالع ومعرفة الابراج، كما انهن في العادة ضحايا العرّافين والكُهان الذين يعرفون ضعف المرأة في هذا الجانب، ولذلك، فإن تفسير الأحلام يمثل مسلكا تعويضيا آمنا للتعرف على المستقبل من دون الوقوع في المحظورات الشرعية السابقة، وهذا ما يجعل الأحلام الوسيلة المثلى المهيأة للقيام بدورها الاستشرافي التنبؤي، والمشكلة في هذا كله ان الحالمين رجالا ونساء يظنون أن رؤاهم ومناماتهم ستتحقق، وكأنها فلق الصبح، وذاك أمر لا يتحقق إلا في رؤيا الانبياء (عليهم السلام) لأنها من ضروب الوحي، ولو أجرى الحالمون قياسا لاحلامهم مقارنة بما تحقق منها على أرض الحقيقة لاكتشفوا ان الأمر لا يستحق كل هذه المعاناة في تتبع تهاويل المعبّرين الذين تحققت أحلامهم المادية والمعنوية فعلا بفضل اضغاث الاحلام وبراءة الحالمين!

د. جاسم الفهيد

الكاتب: د. جاسم الفهيد

التعليقات على جنون الأحلام!

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
31721

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري