مقالات الوعىالعلاقات الإنسانيةالتسامح › قراءة في كتاب "التسامح أعظم علاج على الإطلاق"

قراءة في كتاب

إذا كانت الدبلوماسية هو أن تحقق مكاسب وفوائد لنفسك دون أن تضر بمصالح الآخرين, فإنه عبر التسامح يمكنك الحصول على فائدة أكبر مما يكسبها الشخص أو الأشخاص الذين تسامحت معهم, لذا فإن التسامح ليس مبدأً فحسب بل فيه مصلحة شخصية وعامة؛ وقد حثنا الله عليه بقوله سبحانه:(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم), فبالتسامح فقط نحوِّل أعداءنا الألداء إلى أصدقاء حميمين.

يبدأ جيرالد جامبولسكي كتابه "التسامح أعظم علاج على الإطلاق" بمقدمة عن سبب وضعه لهذا الكتاب, وهي أن التسامح هو أهم الدروس التي ينبغي أن يتعلمها المرء لذا فقد كتبه لنفسه كتذكرة بأنه يودّ بالفعل أن ينهي المعاناة التي سببها لنفسه وللآخرين بسبب إصداره للأحكام ومكابرته لأن يتسامح. لقد تعلَّم الكاتب أن التسامح يحرّرنا من الماضي ويجعلنا نعيش اللحظة بكل جوارحنا؛ ففي حياتنا اليومية نميل للنظر إلى التسامح على أنه شيء أكثر بقليل من مجرد تقبّل اعتذار الآخرين وأحياناَ نقبل الأعذار من منطلق التأدّب في حين أننا بحق لا نشعر بالتسامح, أو أحياناً نتمسك بالطريقة التي أَحبطْنا بها صديقاً أو شخصاً نحبه, وكأننا نوقن بأن هذا هو الأسلوب الذي نحمي به أنفسنا, وأثناء تخبطنا في إدراك التسامح لا نتمسك فقط بالسبب الذي نجم عنه الكثير من الألم, ولكننا نغمض أعيننا عمّا يمكن أن يداوينا.

في الفصل الأول من الكتاب يناقش المؤلف جذور التعاسة حيث أن معرفتنا من أين تبدأ التعاسة يمكننا من النظر إلى العالم بطريقة مختلفة, والمكان الذي نبدأ منه هذا الاكتشاف هو ذلك الجزء الذي بداخلنا والذي يعتقد أن سعادتنا تكمن في الأمور الخارجية؛ فالحياة المعاصرة تجعل من اليسير أن نعتقد أن المال وتراكم الأشياء المادية وزيادة علاقاتنا الاجتماعية هي ما سيوفر لنا السعادة, ولكن المشكلة أنه كلما تراكمت هذه الأمور احتجنا إلى المزيد. يتساءل المؤلف: ما هو هذا الشيء الذي بداخلنا ويجعلنا ننشد السعادة من خارج أنفسنا؟ إنه الجزء الذي يجعلنا نؤمن بأن كينونتنا الحقيقية محدودة بأجسامنا وشخصياتنا, وهو نفسه الجزء الذي يسخر من أي اقتراح بأن جوهرنا الحقيقي هو أننا كائنات روحية تسكن مؤقتاً في تلك الأجسام. يختار المؤلف أن يسمي هذا الجزء "الأنا" ويضرب مثلا على محاولات الأنا الدائمة لتبرير وجودها في حياتنا بزعم أنها تسعى لما فيه صالحنا, مثلاً أجسادنا تحتاج للبقاء وللحماية ولذلك تدفعنا الأنا إلى تناول الطعام والابتعاد عن كل ما يهدّد حياتنا, ولكن "الأنا" توجّه إلينا مرةً بعد مرة رسالةً بأننا نحيا في عالم لا إنصاف فيه فنحن فيه ضحايا؛ وما لم نكن دائماً وأبداً يقظين فإن الأنا ستسعد عندما نقتنع بأننا ضحايا, لأننا سنسلم قوانا إليها, وآخر شيء تريدنا الأنا الاقتناع به هو أننا نملك حق الاختيار وأننا يمكن أن نختار ألا نكون ضحايا بل يمكننا اختيار الحب بدل الخوف, وأن نغفر بدلاً من أن نستبقي بداخلنا شعوراً بالمرارة والحسد والتذمر. إن التسامح عملية تحويلية فبتغيير رؤيتنا للأمور يمكننا أن نتوقّف عن إلقاء اللوم على الآخرين اعتقاداً منا بأنهم سبب تعاستنا, وباحتضان جوهرنا الروحي الحق نكتشف في الحال أنه منبع حبنا وسلامتنا وسعادتنا.

في الفصل الثاني يشرح المؤلف مفهوم التسامح فهو التخلّي عن الرغبة في إيذاء الآخرين بسبب أمر قد حدث في الماضي وهو الرغبة في أن نفتح أعيننا على مزايا الآخرين بدل أن ندينهم. وبهذه الطريقة نحمي أنفسنا من تشبثنا بالكراهية وطلبنا للثأر, ومن شأن التسامح أن يحررنا من سجون الخوف والغضب التي فرضناها على عقولنا ورغبتنا في تغيير الماضي, فعندما نتسامح تلتئم جراحنا ونرى حقيقة حب الله لنا حيث يكون هناك الحب ولا شيء سواه.

يوضّح المؤلف في الفصل الثالث الخاص بالعقل غير المتسامح كيف تعمل الأنا فهي تبذل كل جهدها لتقنعنا بأنه لا أحد في العالم يستحق تسامحنا, وكثيراً ما تصل إلى ما أبعد من ذلك, فتقنعنا بأن أنفسنا لا تستحق هذا التسامح, وهي تتمسك وبقوة بالاعتقاد بأن الناس يفعلون أشياء لا يصّح أن نسامحهم عليها. وفي علاقتنا مع الله تستمر الأنا في إخبارنا أن الله غاضب علينا وربما تحاول أن تزعزع ثقتنا في أن الله معنا. إن العقل غير المتسامح للأنا لديه دائماً مخزون وافر من الخوف والبؤس والألم والمعاناة والشك واليأس, وهو العقل الذي يرى الأخطاء كخطايا لا يمكن نسيانها ولا غفرانها. وهنا يشير المؤلف إلى الآثار الجانبية السامة المحتملة لأفكارنا غير المتسامحة والتي ينوء بها الجسد مثل الصداع وآلام الرقبة والظهر والمعدة والاكتئاب والقلق والتوتر والأرق, والدواء لكل هذه الأمراض هو التسامح.

في الفصل الرابع يعدد المؤلف الأسباب التي تقدمها الأنا كي لا يسامح بعضنا بعضاً مثل: هذا الشخص قد آذاك بالفعل فيستحق غضبك ويستحق ألا يشعر بحبك نحوه؛ لا تكن أحمقاً فإذا سامحت سيكرر هذا الشخص نفس الفعل مرات ومرات؛ إذا سامحت فأنت ضعيف وغبي؛ إذا سامحت ذلك الشخص فكأنك وافقته على فعله ذاك؛ الشخص الذي يقلِّل من شأنه هو فقط الذي يكون على استعداد للتسامح؛ عندما لا تسامح فأنت تتحكّم في المخطئ والتحكم هو أفضل وسيلة لتكون آمناً؛ أفضل طريقة تحافظ بها على المسافة بينك وبين الذي آذاك هي ألا تسامحه أبداً؛ اكبح تسامحك فهي الطريقة التي تشعرك أنك على ما يرام وأنك ستنال ثأرك.

يقصّ المؤلف في الفصل الخامس تجربته الشخصية في الطلاق ليبيّن للقارئ العقبات التي تحول دون الوصول إلى التسامح, والعقبة الأولى هي في التصور الخاطئ فلدى كل منا طريقة خاصة تجعل لحياتنا معنى ونحتفظ بذكريات عن كل ما حدث لنا, ولو أن شيئاً مخيفاً قد حصل معنا عندما كنّا صغارا فإننا لا نتذكره فقط بل نستخدمه في الحكم على الأمور التي تحدث في الحاضر والمستقبل؛ وحيث أن الأنا قادرة على تطويع التصور لأغراضها فستقنعنا بأن ما نتصوره في طوية الآخرين هو حقيقي وواقعي, والناتج أن كل أفكارنا ومشاعرنا غير المريحة قد سبّبها لنا الناس والعالم الخارجي. والعقبة الثانية تكمن في اعتقاد أن الماضي سوف يتكرر في المستقبل حتماً. وأما العقبات الأخرى فهي الشعور بالذنب والخزي بسبب موقف ما وقد يتحوّل هذا الشعور إلى عقدة دائمة تمنع التسامح مع النفس والغير.

في الفصل السادس يسرد المؤلف قصصاً من معجزات التسامح كما يصفها لكنه يبدأ بنقد الثقافة الغربية فيضفها بأنها تجعل الإنسان يتمرد على الذات الإلهية حيث ينسب الإنسان عبء كل ما يتعرض له إلى الله, لذا ينفر كثيرون من الخوض في أي شيء يرمز إلى الدين أو إلى الله نتيجة للتجارب المؤلمة التي تعرّضوا لها في صغرهم, أما الناس الذين أورد المؤلف قصصهم فهم أولئك الذين أصبحوا قادرين على الاتصال الروحي بقوة عليا بعد أن تخطّوا مشاعر السخط وفقدان الثقة, وتخلّوا عن مفاهيمهم الخاطئة عن الله وعن إلقاء اللوم على القدر فاستطاعوا فتح آفاق جديدة من الشعور بالرضا الذاتي أمام أنفسهم. من القصص التي يرويها المؤلف قصة عن الصفح عن الأقرباء المتوفين وقصة أخرى عن التسامح في الحياة العملية وكذلك عن التسامح في أوقات الأزمات والكوارث ومنها ينتقل إلى السلام العالمي وفائدة التسامح في السياسة وفي الحروب, وهنا ينتقد المؤلف بلده أمريكا حيث يتحدث عن حوار دار بينه وبين ضابط روسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إذ قال له الضابط الروسي:(الآن ولأن بلدينا في وئام أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تسعى إلى إيجاد عدو جديد) ويعلق المؤلف: (أيقنت أن بملاحظته كثيراً من الوجاهة, فنحن عندما نتبع عقيدة الأنا فإنما نبحث عن عدو جديد وبمجرد أن نداوي صراعاً تظهر صراعات أخرى ويبدو أننا لا نستطيع العيش بدون عدو نحاربه).

في الفصل الأخير يوجز المؤلف الخطوات العملية للسمو إلى التسامح ويلخصها في مرحلتين: الأولى مرحلة الإعداد وتتمثل بتغيير المعتقدات حيث تساعد الصلاة والتأمل والاستمتاع بالطبيعة والقيام بتجربة الاندماج معها على تبني مبادئ التسامح ومنها: نبذ الإشفاق على الذات, وترك انتقاد الناس وتصيد أخطاءهم, والنظر إلى النفس باعتبارها كائناً روحياً يسكن الجسد لفترة محدودة, وإدراك أن التمسك بالأفكار غير المتسامحة طريق للألم العاطفي والمعاناة, والرغبة في حساب ما تنعم به أكثر ممن تنقم عليه, والإيمان بأن كل فرد تقابله هو معلم للصبر, وأهمّ من كل ذلك هو تجربة فقدان الذاكرة في كل لحظة متناسياً كل شيء فيما عدا الحب الذي حباك به الآخرون.؛ أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التنفيذ التي تبدأ من اختيار قرار التسامح والإرادة التي تشكّل مفتاح اللغز الذي يمنحك القدرة على المضي قُدماً في عملية التسامح وتفضي إلى نفسك واثقاً برغبتك في التخلص من كل الهموم وتفضي بها إلى أسمى حقيقة في نفسك وهي حقيقة وجود القوة العليا أي الله, وسوف يبدأ غضبك في التحول إلى محبة. ثم يستعرض المؤلف الطرق المناسبة للعمل حسب استراتيجية التسامح فقد تكون بكتابة خطاب إلى الشخص الذي تودّ أن تسامحه وقد تكون راغباً في رؤيته كواحد من أكبر معلميك الذين يتيحون لك الفرصة لتدرك ماهية التسامح, وقد تكون في الدعاء له كما تدعو لنفسك, وهذا كله لا يعني أنك تتفق معه بالرأي أو تتغاضى عن مسلكه الجارح لكن المقصد أن تستمتع بالسعادة والطمأنينة التي تنبع من التسامح. وهذا المفهوم الأخير هو ما تمت الإشارة إليه في بداية المقالة والتي تجعل من التسامح دبلوماسية نحن بحاجة إلى أن نتعلمها في كل وقت وحين.

نشر في مجلة المعرفة/وزارة التربية والتعليم السعودية

الكاتب: دكتورة ليلى الأحدب

التعليقات على قراءة في كتاب "التسامح أعظم علاج على الإطلاق"

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
98455

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري