مقالات الوعىأسلوب الحياةالمعرفة والوعى › امنحْ عقلك فرصة كافية!

لا تجعل أحكام الآخرين ممن يفوقونك ذكاء أو خبرة أو هم أكبر منك سناً ولو كانوا أقرباء لك كأبيك وأخيك؛ تأسرك وتنطلق على لسانك دون أن تعرضها على عقلك، وتعمل فيها تجاربك الخاصة حتى يثبت لك نفعها من سقمها وصحتها من فسادها وجدواها من عدمه. إن فرض مثل هذا الأمر على الذات يجعل العقل في حالة عمل مستمرة يستوعب من خلالها الحياة، ويحلل مشاكلها، ويقدر على إيجاد الحلول لها.. إن كثيراً من الناس مثلاً يحكمون على أشخاص معينين من خلال حكم من يعرفونهم ويثقون فيهم، فإذا سألت أحدهم هل تعرف هذا الرجل الذي تسبّه وتنتقده قال لك: أبي يعرفه، أو أخي قد اطلع على أخباره، أو حدثني الثقة بحاله، في دوّامة من السخف والركاكة لا تنتهي، ولما ذُكر رجل في مجلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نطق أحد الحاضرين ممن يملكون الأحكام الجاهزة فقال: نعم الرجل هو! فقال عمر -رضي الله عنه-: هل تعرفه؟ قال نعم. فقال -رضي الله عنه- معلماً الأمة كلها كيف يكون التفكير، وكيف تكون الآراء، وكيف يجب أن نحيا الحياة: هل سافرت معه؟ فقال الرجل: لا! قال: هل جاورته؟ فقال الرجل: لا! فقال: هل عاملته بالدينار والدرهم؟ فقال الرجل: لا! فقال رضي الله عنه: أنت لا تعرفه!

هذه الأشياء الثلاثة قانون عملي لمن يريد الحكم على الرجل، وهي إن لم تكن مستوعبة الحياة كلها إلاّ أنها من أصول الحكم على الناس والنظر في حالهم؛ لأن فيها القانون العملي والتحليلي لما يعترضنا في حياتنا، ولا يقدر على مثله الكسالى ممن لا يحترمون أنفسهم ولا يقدرون عقولهم، ولا يرقبون في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة؛ يدفعهم الحسد، ويعميهم الغرور، ويقودهم الشيطان الرجيم. إن حياة كل واحد منا قصيرة جداً لا تحتمل أن نملأها بسخيف الأفكار وفاسد الاعتقاد وبذيء الأخلاق، والواجب في حقنا أن نعطي أنفسنا مهلة في القول، ونهب عقولنا فسحة من الوقت نفكر ونتدبر، ونبحث؛ لكي نعطي حكمنا في المسألة التي تهمنا ويُبنى عليها مصلحة راجحة.

ومما يصدق مثالاً على ما قلت ما فعله كفار قريش ومن سبقهم من أهل الكفر عندما انفتحت عليهم أبواب السماء بأنوارها، وتدفقت عليهم رسل الله تترى تعلمهم الخير، وتدعوهم إلى التوحيد، وتأتيهم بما يعضد أقوالهم من عجيب المعجزات، وغريب الخوارق فلم يكن جوابهم سوى الاحتجاج بما عليه الآباء والأجداد في بلادة يأنف منها المغفلون ويشمئز منها الحمقى، ولم يعطوا أنفسهم وقتاً يبحثون في صدق الدعوة وقوة البرهان واستقامة الدليل، فكان جزاؤهم وفاقاً لموقفهم العقلي والنفسي. [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ].

وحتى نتخلص من هذه المأساة يجب أن نتأنى في الحكم على أي شيء ليس في دائرة البديهيات، وبذلك نعد لعقولنا حصانة من الانجراف وراء التسرع المذموم، وهو صفة من صفات عصرنا المتقلب في أفكاره السريع بأحداثه. ومع هذا التأني يأتي البعد عن الهوى وتحرير العقل من أغلال النفس وجواذبها في بداية تكوين رأي صحيح وإحداث تصوّر دقيق. ويأتي بعد ذلك البعد عن قبول شيء غير بديهي بدافع الكسل أو الثقة في القائل إلاّ بعد تأمله ودراسته، إن مثل هذه الطريقة في التفكير تجعلنا بعيدين عن الانصياع للآخرين، وتمنحنا استقلالية كاملة تمنح وجودنا معنًى حقيقاً نحيا به. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي خصومه فرصة يفكرون فيما قاله، ويبحثون فيما قرره حتى يكون إيمانهم عن اقتناع تام لا تغيّره الأهواء، ولا تعبث به التقلبات، ولا يكون مدعاة للانهيار لأدنى رهبة أو رغبة. وكان صلى الله عليه وسلم يتقبل محاورة الناس ومجادلتهم وكثرة أسئلتهم الملحة إن علم أنها ستقودهم إلى تفهم رسالته ووصولها إلى أعمق أعماقهم.

ولو أن التعليم عندنا يقوم على هذا الأساس في المناقشة والبحث والتقصي وعدم التسليم بكل فكرة تُلقى هكذا بلا خطام أو زمام وحشو العقل بكلام يعتريه ما يعتريه من عيوب الإنسان لاستطعنا أن نكتسب مهارة تجعلنا أمة عملية لا تقف همتها عند حد، كما كان آباؤنا الأوائل الذين أثروا الحياة بعلمهم وعملهم، وبنوا حضارة ما زالت آثارها شاهدة على عبقريتها ونضج عقول أهلها. ولما وصلنا إلى ما نحن عليه من ضعف سيطر على عقول شبابنا، فانساقوا وراء الأفكار الغربية الملمعة المعروضة بشكل حداثي رائق، في أسلوب يستدعي المفارقة بين المجتمع المتخلف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً الذي نعيشه والمجتمع الغربي المتقدم حضارياً في جميع المجالات، مما يولّد إحباطاً نفسياً وهزيمة عقلية ترمي بحبل العقل إلى كل قائد فاتح يحمل روح الغرب بين جنبيه، فحدثت في مجتمعنا انقسامات وهزائم ولّدت صراعات محمومة نقرؤها في صحفنا، ونشاهدها في قنواتنا، ولا نعلم ما يؤول إليه هذا الصراع على وجه التفصيل، وإن كنا نعلم ذلك على وجه الإجمال ضعفاً في الأمة وتحطيماً لمعتقداتها، وتوهيناً لبنيتها الاجتماعية، وبغضاً لساستها وعلمائها.. ويشمل هذا الانسياق للأفكار الانسياق لأفكار الغلو والتطرف التي عمّت بلواها وطبقت الآفاق، وسواء كانت لها الأبعاد التي تصورها الصحف والفضائيات أو لم تكن إلاّ أن خطرها ذو سطوة على العقول والأنفس...!
ولو كان الشباب يتمتعون بالوعي النقدي والتفكير السليم لاستطاعوا أن يصلوا إلى فساد هذه الأفكار وعدم ملاءمتها لهم، ويحضرني مثال على رجل مسلم صادق الإسلام ذهب إلى أوروبا متديّناً ناصع القلب، وجاء منها أشد نصاعة، وأثبت إيماناً، وأرجح عقلاً في زمان ماجت الحياة الغربية بأهل الإسلام، فغيّرت أفكارهم، وأفسدت أخلاقهم، وشوّهت إيمانهم، ولم تغيّره الحضارة المادية، وتخطف بصره، وتطفئ نور عقله، وهو يدرس هناك في مجال علمي دقيق، ذلكم هو الدكتور المسلم العبقري: محمد أحمد الغمراوي صاحب كتاب النقد التحليلي الذي فنّد فيه كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي، وله من الكتب والمقالات التي كشف بها حقيقة أعداء الإسلام، وبيّن من خلالها أن دين الإسلام هو دين العقل السليم والنفس الصافية والحضارة الراقية، فلم تمل بهذا الدكتور المسلم الحياة؛ لأنه بنى حياته على الاعتقاد الصحيح والعقل السليم، فلا يأخذ الأمور بتصور ساذج أو تسليم بليد، كما فعل غيره ممن أُشربت قلوبهم محبة الغرب، فأخذ يقلدهم في الصغير والكبير، بل –وللأسف- حتى فيما هو من خصائص الأمة العربية كالشعر، وهذا ما فعله طه حسين؛ فقد أخذ برأي المستشرق مرجليوث في طعنه على الشعر الجاهلي، وزعمه أنه شعر منحول لا يثبت عند الدراسة انتماؤه لمن نُسب إليهم من أهل الجاهلية.. أين كان عقل الدكتور طه حسين الذي سلطه على التاريخ الإسلامي فانتقده، وعلى العقيدة الصافية فشوّهها، وعلى المجتمع فمزّق كيانه؟! ألم يستطع هذا العقل الكبير أن ينظر في كلام هذا المستشرق الأعجمي فيحلله، وينقده وفق ما تعلمه من مذهب الشك الديكارتي أم هي الهزيمة النفسية والتبعية العقلية المستخذية التي جعلتنا عبيداً للفكر الغربي وأسارى للحضارة الغربية؟!

إن هذا الدكتور المسلم الغمراوي لم يقبل ما كتبه الدكتور، فعرضه على موازين العقل فتبهرج وعلى نار البحث فاختفى... وهذا هو الواجب في حق كل مسلم ألاّ يسلم عقله بمفاتيحه لغيره مهما كان هذا (الغير)!

وأنت لو تأملت على سبيل المثال الفقه، وما كُتب فيه لوجدت أن العلماء الذين برزوا وبقيت أسماؤهم لامعة في سجل التاريخ هم من لم يسلم بأقوال المذهب؛ لأنها أقوال المذهب بل بحث وفتش ونظر وقارن وتأمل حتى وصل إلى نتيجة ورأي قد يكون موافقاً للمذهب وقد يكون مخالفاً.. وشيخ الإسلام ابن تيمية من الأمثلة المبرزة في هذا الشأن.
هذا مع احترام الجهد المبذول من قبل المذاهب الفقهية والقيمة العلمية التي خدموا بها الفقه الإسلامي.

الكاتب: سلمان بن محمد العنزي

التعليقات على امنحْ عقلك فرصة كافية!

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
22723

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري