مقالات الوعىالصحة العقليةالإساءة وعلاجها › العنف العائلي: ظاهرة في مجتمعنا ترقى إلى مستوى البحث عن الحلول

صور استعارت من الصمت صفته وأطبقت على وجعها، ذاك الصمت الذي لف معاناة من جمّدت اللحظة مشهدهم في إطار يحكي عما لاقوه من عذابات على يد ليست غريبة عنهم. يد كان من المفترض بها أن تكون حانية، تمنع عنهم الأذى وتدفعه.

تلك كانت صوراً لآثار عنف متروكة على أجساد أطفال لم يتجاوز بعضهم العام والنصف من العمر، قضوا أو شوهوا بفعل عنف مارسه عليهم ذووهم، أوردها د. بسام المحمد أمين سر الرابطة السورية للطب الشرعي في محاضرة استضافها المنتدى الاجتماعي بالتعاون مع لجنة دعم قضايا المرأة بدمشق في 22 أيار 2007 للحديث عن العنف العائلي في مجتمعنا بوصفه ظاهرة ترقى إلى مستوى البحث عن الحلول.

ما هو العنف؟
لا يقتصر موضوع العنف، وخاصة العائلي منه، على مجتمع دون سواه. فجذوره ممتدة في كل المجتمعات، وبضمنها مجتمعاتنا العربية، هذا ما أكده د. بسام المحمد في تقديمه لموضوع العنف الذي عرفته منظمة الصحة العالمية بأنه (الاستخدام المقصود للقوة أو التهديد باستخدامـها ضد الذات أو شخص آخر، والتي يؤدي استخدامها أو قد يؤدي إلى الأذى أو الموت). في حين يُعرّف العنف قانونياً أنه (كل فعل مقصود أو غير مقصود يسبب معاناة جسدية أو نفسية أو جنسية للآخرين). وتطرق د. المحمد للحديث عن أنواع العنف وأشكاله بحسب نوع الأذية (العنف الجسدي، العنف الجنسي، العنف النفسي، الإهمال ونقص الرعاية، الاستغلال الاقتصادي)، عارضاً بعض سمات الأشخاص المتوقع أن يمارسوا العنف، كالذين تعرضوا للعنف في الصغر أو الكحوليين أو مدمني المخدرات، أو الذين لديهم علاقة مع أشخاص معروفين بالعنف. كذلك من يعيشون في بيئة معروفة بالعنف أو تشجع عليه. أو من يعيشون في جـو اجتمـاعي مـن الإحبـاط وعـدم التكافؤ والفقر.

المرأة والطفل.. الحلقة الأضعف
الأسرة هي الخلية الأولى الحامية للأشخاص المنتمين إليها، ومن هنا تأتي خطورة العنف الممارس داخل إطار العائلة نفسها، فغالباً ما يحاط هذا العنف بصيغة من التكتم ما يجعل الضحية هدفاً سهلاً لاستمرارية الفعل، ويحمي الجاني من عقاب رادع، فيعاود فعلته مراراً وتكراراً. د. المحمد عاد خلال محاضرته إلى الظاهرة التاريخية للعنف العائلي في مجتمعنا العربي، مستشهداً بمثالين: ظاهرة وأد البنات التي (انقرضت)، و(جرائم الشرف) التي مازالت شاهداً حياً حتى يومنا هذا عن عنف مشرعن قانونياً واجتماعياً، مشيراً إلى أن الأشخاص الأكثر عرضة للعنف في نطاق العائلة هم المرأة والطفل.

العنف ضد المرأة ومسؤوليتها
في انتقاله إلى الحديث عن العنف ضد المرأة عرّف د. المحمد هذا العنف بأنه (فقدان المرأة للأمان، وللاحترام، نتيـجة تعرضها المباشر للعنـف الجسدي، أو النفـسي، أو الاقتصادي، أو الجنسي، أو نتيجة تعرضها للتهديد بالعنف من قبل الرجل بشكل مباشر، بقصد فرض السيطرة والتبعية). وشرح في هذا السياق أنواع العنف الممارس ضد المرأة وتجلياته، مُرجعاً المشكلة التي تنطوي عليها الإساءة إلى المرأة إلى جملة المعايير الاجتماعية التي تقر بتفوق الرجـل عليها، وأنها بحاجة إلى توجيه وسيطرة وتأديب، فضلاً عن تلك القيم الاجتماعية التي تنظر إلى العنف على أنه نمط شرعي مقبول، يقوم به الرجل لتفريغ الإحباط، وغيره من الأزمات التي تعترضه. ورأى د. المحمد أن المرأة هي المسؤول الأول عن التعريف بحالات الإساءة التي تتعرض لها (لأنه لن يستطيع أحد أن يتدخل لحل مشكلتها إذا لم تأخذ هي نفسها القرار بكسر حاجز الصمت لفضح ما تتعرض له) وأضاف (ينبغي تهيئة الأرضية الملائمة، كتغيير الثقافة المجتمعية حيالها، إضافة إلى تعديل القوانين التمييزية لتتمكن المرأة من القيام بهذا الفعل).
ومن خلال عرضه لدراسة أجريت على جميع النساء اللواتي راجعن مركز الطب الشرعي بحمص، بشكوى أذيات جسدية ناجمة عن العنف المنزلي خلال الفترة الممتدة بين 2004 و2005، تبين أن 98 % من الحالات كان الزوج هو المعتدي، وسُجلت نسبة 99% حصل فيها الاعتداء لأكثر من مرة. ما يدل على أن الضحية غالباً ما تميل إلى الصمت ولا تلجأ إلى القضاء إلا في الحالات القصوى. كما أظهرت الدراسة أن 47% من النساء اللواتي يتعرضن للعنف كنّ دون العشرين عاماً، ما يؤشر إلى أن الزواج المبكر قد يكون سبباً من أسباب العنف ضد المرأة. ورأى المحمد أن أشد أنواع العنف الواقع على المرأة هي جرائم الشرف.

الطفل المضطهد
هل لدينا ظاهرة الطفل المضطهد في مجتمعنا ؟هل هناك حدود فاصلة بين الضرب التأديبي والإساءة؟ وهل الإساءة تدخل في حرية الوالدين بالتربية؟ تلك كانت أسئلة طرحها د. المحمد تمهيداً للحديث عن العنف العائلي الموجه ضد الأطفال. مشيراً إلى أنواع الإساءة التي قد يتعرض لها الطفل من قبل القائمين على تربيته، والتي تتمثل بـ( الإساءة الجسدية والإساءة الجنسية و الإساءة العاطفية و الإساءة الكلامية الإساءة العقلية والإساءة النفسية والإهمال بأنواعه)، ومن خلال التعاريف التي قدمها لمفهوم الإساءة وأنواعها، اشترط المحمد استمرارية الفعل المسيء وتكراره كي يوضع تحت مسمى الإساءة. كما تحدث عما تخلفه تلك الإساءات من آثار جسدية ونفسية بالغة الأثر على الطفل وسلامة نموه البدني والعقلي والعاطفي.
ورأى المحمد أن قطاع التربية في المدارس ورياض الأطفال والمؤسسات الاجتماعية التطوعية والقطاع الصحي الخاص والعام والطبيب الشرعي، هم المسؤولون عن التعرف على حالات الإساءة المتعرض لها الطفل، نظراً لاحتكاكهم المباشر بالطفل سواء في المدارس أو من خلال تشخيص الحالة المصابة من قبل الأطباء بشكل عام والطبيب الشرعي خاصةً. فيما أرجع مسؤولية حماية الطفل إلى رجال الأمن والقضاء في الحالات المبلغ عنها والجمعيات الأهلية في بعض الحالات التي يوكل إليها بذلك. إذاً لن يحظى الطفل المساء إليه بالحماية إلا في الحالات التي يُبلّغ عنها، فمن يحمي أولئك الأطفال الذين لا تجد معاناتهم سبيلاً للوصول إلى العلن؟ يقول د. المحمد في هذا الإطار (هناك عدد كبير من الحالات لا يجد فيها الطفل من يحميه!) والإشكالية في حالات الإساءة للطفل تكمن في أن الأهل لا يعرفون ما هي حدود الإساءة للطفل، وفي الازدواجية في النظرة إلى العنف ما بين البالغ والطفل، ويأتي الاعتقاد بصواب الضرب التأديبي وبسلطة الأهل التربوية المطلقة وفشل المحيطين في التنبؤ بوجود إساءة للطفل ليزيد من هذه الإشكالية، كما حمّل المحمد القطاع الصحي مسؤولية هذه المشكلة عندما يفشل في تشخيص حالات الإساءة، مؤكداً أنه لا ينبغي دائماً تصديق الرواية التي يرويها الأهل عن الإصابة.

نظرة إلى القانون
إذا كانت حالات العنف في إطار العائلة محمية بأعراف اجتماعية تتخذ من مفهوم (الستر) قاعدة مثلى، فهل نجح القانون في وضع ضوابط لمثل هذه الحالات، وأعطى عقوبته الرادعة حيالها؟ د. المحمد أشار إلى أن القانون السوري لم يرد فيه مواد خاصة بالعنف العائلي، باستثناء حالات القتل القصد ؛ إذ شدد الحكم إذا وقع الجرم على أصول المجرم أو فروعه بحسب المادة 535، أما في مجال العنف الجنسي فلا يعدّ القانون جماع الرجل لزوجته دون رضاها اغتصاباً، في حين شدد العقوبة في حالات الاغتصاب أو الفعل المنافي للحشمة، إذا قام به أحد الأصول أو الفروع (للولد أو العاجز) أو أحد الأشخاص القائمين على  حراسته أو مراقبته أو علاجه أو تربيته بحيث لا يمنح أي سبب مخفف. ومنع القانون المجرم من حق الوصاية إذا تسبب له بالأذى .
الندوة التي ألقت الضوء على موضوع ربما مازال حتى اليوم من المسكوت عنه لدى البعض الذي يفترض في مجتمعنا الصلاح الكامل، نبهت بمضمونها وبالصور التي عرضت خلالها إلى خطورة عنف موجود بيننا، سواء سلكنا نهج النعامة في التعامل معه، أم أشحنا بوجهنا عنه، سيبقى بأسبابه ومفاعيله يذكر أنه سيرغمنا يوماً على رفع الرؤوس من الرمال لنشاهد بفزع أي حالات تغاضينا عنها، أي مارد صنعناه بصمتنا، وبصمتنا فقط.. فهل نبدأ بالكلام عنه والبحث عن الحلول قبل أن يأتي ذاك اليوم؟!

تنشر بالتعاون مع جريدة النور (30/6/2007)

الكاتب: منى سويد

التعليقات على العنف العائلي: ظاهرة في مجتمعنا ترقى إلى مستوى البحث عن الحلول

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
46421

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري