المقاربة منهج الإسلام، وهي ضد المباعدة، وفي الحديث الصحيح «فسددوا وقاربوا»، ومعنى «قاربوا» -كما يقول العلماء- حاولوا الوصول إلى الحق إن لم تستطيعوا الكمال في بلوغه، وفي الحديث (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وفي التنزيل {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. 

ويقول الله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61].


فالقرب مرتبط به الإجابة، فما عسى أن ينفع القرب مع الجفاء، أن تنادي فلا يجيبك من تراه منك قريبًا، وأن تطلب إليه ما في وسعه أن يحققه لك فلا يقدم لك شيئا، إنه -إن أردت إنصافًا- أبعد ما يكون عنك، قال أبو نواس:

 

وما أنا مسرورٌ بقرب  الأقاربِ        إذا كان لي منهم قلوبُ الأباعدِ

 

أي إذا كانت القلوب بعيدة فلا نفع في قرب الأجساد.


وقد رأينا أزواجًا يسكنون بيتًا واحدًا، ولكنهم كالغرباء، هم موجودون في البيوت، لكن أرواحهم هربت من تلك البيوت، وهذا معنى من معاني العدم الذي قد يظنه بعض الناس وجودًا وما هو بوجود.


وإذا كنا نريد الربط بين ذلك وبين المعين الصافي الذي ذكر في آيتي البقرة وهود استطعنا ذلك بشيء من التفكر والتدبر، فالله عز وجل قريب مجيب؛ إنه -عز وجل– قريب بلا شك، لا يغيب، قال تعالى: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].


وهو سبحانه وتعالى مجيب، ولكن من يجيب؟

إنه يجيب الداعي إذا دعاه مخلصًا له الدين، ملتزمًا بشرعه، مجتهدًا في طاعته، أما الفاسق المنافق فيدعو ولا يستجاب له.


ألا يجوز لنا أن نستثمر هذا المعنى في بيان القرب الحقيقي بين الزوجين اللذين كانا بعيدين قبل الزواج، فقرب الزواج بينهما؟

لقد جرت عادة الناس أن يدعوا عالمًا من العلماء لعقد زواج أولادهم، وقد رأيت مثل ذلك، ورأيت ما يراه الحضور من وجود العروس إلى جوار زوجها، حتى إن بعض الناس الذين ورثوا ثقافة قديمة شعبية ينهض لإخراج طفل حشر نفسه بينهما، يقولون: لا تفرق بينهما يا ولد، تعال تعال، ومنهم من يعد ذلك سوءًا ويتشاءم بسببه، إنهم يريدونهما قريبين متقاربين متصلين بلا فواصل، حتى لو كان هذا الفاصل طفلا صغيرًا لا يدرك ذلك، إنما استراح لكونه حشوًا بين شخصين جميلين حولهما الورود، ومنهما يضوع المكان عطرًا، والوجوه تحملق فيهما وكأنها لم تشاهدهما إلا في تلك الساعة، وكأن العروس لم تكن بالأمس فتاة عادية مألوفة، وكأنها هبطت من السماء أو جاءت من أرض أخرى غير الأرض التي نسكنها.


فكيف يدوم هذا القرب؟ وكيف يؤتي ثماره؟ وكيف يحقق الغاية المرجوة منه؟ والجواب عن ذلك كله يتمثل في حرص كل منهما على أداء ما كلفه الله تعالى به من حق منوط به لتحقيق سعادته، وبلوغ غايته، وأداء رسالته. أما الذي فرق بينهما من غير تدخل طفل ولا غيره فهو التفريط في أداء ذلك الحق، والتقصير في إيصال كل واحد منهما الواجبَ الذي عليه لصاحبه وعوامل أخرى سوف يأتي بيانها في موضع آخر.


والعجيب الذي ألفه الناسُ أن يكون كلُّ واحد من الزوجين نافعًا للبعيد غير نافع لصاحبه وهو أقرب الناس إليه، قال ابن الأحوص:

 

من الناس من يغشى الأباعدَ نفعُه        ويشقى به  حتى  الممات  أقاربُه

 

وفي هذا المعنى يقول آخر:

 

وتراه  يُكرم   من   نأى        عنه  ويؤذي  من  حضرْ
كالشمس تنحس من دنا        منها  وتسعد   من   نظرْ

 

ولعلنا نجد السر في هذا الأمر العجيب في قول أبي يعقوب الجريمي:

 

كانوا بني أم  ففرق  شملَهم        عدمُ العقول وخفة الأحلام

 

أي لو أن الإنسان استعاد عقله واستثمر فكره لكان نفعه لأقاربه من باب أولى، فالأولى بالخدمة والرعاية ومقتضيات القرب أقاربنا، والزوج أقرب ما يكون لزوجته، وكذا الزوجة أقرب ما تكون لزوجها، فكلاهما أولى بالمعروف والخير لكي يكون قربُهما قربًا حقيقيًّا، فإذا غاب العقلُ أو غُيب وجدت الزوجة تهتم بأهل زوجها ورفاقه أكثر من اهتمامها بزوجها الذي لولاه لما عرفت أهله ولا أقاربه، وكذلك الزوج الذي تراه رقيق الحاشية مع أخت زوجته، وربما صارحها فقال لها: كأنك لستِ أختها حُسنًا وخلقًا!! ثم يتبع ذلك بقوله: ((سبحان الله)) فيغيظ بذلك زوجتَه مثلما يغيظها بمد فروع عطائه إلى الأباعد، أما زوجته فلها الحرمان!

الكاتب: د. مبروك عطية

التعليقات على القرب الحقيقي

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
80624

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري