مقالات الوعىأسلوب الحياةدروس من الحياة › الحرية وهبت لي السعادة

أعظم التجارب و أشدها أثرا في النفس هي التي تنشأ من حوادث صغيرة في أيام الطفولة. و ليس من السهل علي طفل أن يتفتح عقله إلي معاني الحياة مبكرا, و لكن هذه المعاني التي يتفتح لها عقله في صغره تكون أساس حياته.. و هذا ما كان نصيبي من الحياة.
كنت أول ولد يعيش لأبوي, و لم يرزقا ولدا أخر إلا بعد أن صرت صبيا يافعا. و قد داخلني من معاملتهما الكريمة شعور بأنني عضو مهم في الأسرة, و أنني شريك في تحمل مسؤولياتها. و كنت المح في حياة أسرتي صورة غامضة, جعلتني أعرف أن هناك فرق بين أسلوب الحياة في بيتنا و أسلوب الحياة في بيوت أعمامي و أخوالي.. كما كنت المح أن والدي كان يعاني أزمة شديدة, و يجاهد في مواجهتها جهادا عنيفا.
و في يوم من الأيام تحدثت إلي أبي في حماسة الطفولة عما رأيته عند أبناء عمومتي من اللعب و المتع. و رأيته يصغي إلى في شيء يشبه الدهشة و الحزن.. و ما كدت أفرغ من حديثي حتى و جدته يمسح رأسي و هو صامت, و أحسست أنه كان شديد التأثر, و سألني في رفق: ( أأنت حزين لا أهدي إليك مثل هذه الأشياء؟) و شعرت عند ذلك بشيء لا أستطيع وصفه بلغة الكبار.. كان مزيجا من الأسف و العطف و الاحترام. و قلت في حماسة: (أبدا). و لأول مرة في حياتي أخذت أراجع نفسي في قيمة الزخارف التي تفرق بين أسلوب حياتي, و أسلوب حياة الآخرين, و أعتز بالحالة التي أنا فيها.

و أظن أنني مدين لتلك اللحظة في أنني صرت فيما بعد أميل دائما إلي التقليل من قيمة المظاهر و المتع الكمالية.

و كان لي أبن عم يكبرني ببضع سنوات و هو عزيز عند أمي, كأنه ولدها.. و كانت تمازحني أحيانا قائلة: ( أنه أحب إلى منك, لأنني رأيته و أحببته قبلك ). و كانت قد نذرت له عندما كان في سن السابعة و كنت طفلا رضيعا, أنني إذا كبرت و بلغت سن السابعة مثله جعلتني له خادما أسوق له حماره. فلما بلغت السابعة أرادت أن توفي بنذرها, فدعت أبن عمي و أعدت له دابة ليركبها و حزمتني كخادم و أعطتني عصا و أمرتني أن أسوق له الدابة.

و أطعتها كما تعودت أن أطيعها, و لكني بكيت بكاء مرا بعد ذلك سائر يومي, برغم اعتذار أمي و مواساة أبي. و بغير أن أحس و جدت نفسي أفكر: هل أنا أقل شأنا من أبن عمي؟.. و علي أي أساس يفضل بعض الناس علي بعض؟ و أعتقد أن الأسئلة التي بدأت أوجهها إلي نفسي عند ذلك هي التي فتحت لي بابا واسعا لأسئلة كثيرة أخري عن الناس و عن الحياة.

كنت دائما أسئل, و كنت دائما أفتح عيني لأري. و كان المعني الغامض الذي تدور حوله أسئلتي هو معني العدالة في قياس أقدار الأشخاص و في معاملة الناس بعضهم مع بعض.

و في يوم من الأيام عندما كنت شابا في الثامنة عشرة من عمري, خرجت كعادتي إلي جانب نهر النيل لأتنزه و في ذهني أسئلة كثيرة: ما هذه الحياة؟ ما معناها و ما غايتها؟ و ما هؤلاء الناس؟ كيف تكون السعادة؟ و كيف تكون العدالة؟ و هل الحظوظ عادلة؟ و كانت ساعة م أصيل يوم من أيام الصيف و ماء النهر الأحمر يتدفق زاخرا بالفيضان.. ووقفت أنظر إلي اللجة المضطربة, و سرحت بأفكاري في أسئلتي الحائرة..فلمحت علي وجه الموج عودا يتقاذف به الموج. فشعرت كأن أسئلتي الحائرة تجتمع كلها عند ذلك العود المضطرب, و عبت في تأملي. و ما زلت حتى صحوت من سرحتى و قد حددت لنفسي فلسفة خاصة كان لها أثر عظيم في توجيه حياتي: الحياة زائلة و الناس يشبهون هذا العود الذي يتقاذف به الموج. هم يأتون إلي الحياة بغير إرادتهم و يذهبون عنها بغير إرادتهم. و لو جردناهم من مظاهرهم التي يخلقونها بأنفسهم لأنفسهم لعرفنا حقائق أقدارهم. و هذه المظاهر التي يخلقونها لا قيمة لها أمام الحقائق الأبدية. و مادامت الحياة هكذا, فما قيمة هذه الأغراض التي يتطاحن الناس عليها؟ .. الناس يتطاحنون ليشقوا, و الأمم تتطاحن لتشقي, و سبيل السعادة واضحة إذا فطن البشر إليها.

نحن نمر في الحياة تأدية لواجب الوجود.. فلا ينبغي أن نعقد وجودنا بالخروج عن اتجاهاتنا الإنسانية التي تفضي إلي السعادة, و هي في متناول أيدي البشر إذا شاءوا. هي في داخلهم لو تجردوا من الأنانية و الحرص و الظلم, و اتجهوا إلي التعاطف و التعاون و الخير و الرحمة و العدالة.

و كان لهذه الفلسفة أثر حاسم في توجيه مسلكي مع نفسي و مع الناس.. فأنا أومن بأن أفضل الناس هو أجدرهم بالإكبار, و أن أقواهم هو الذي يمد يده إلي الغير بالمساعدة, و أن أقلهم قدرا هو الأناني الذي يزاحم لكي يخطف ما ليس من حقه, و أما أحقرهم فهو الذي يعتدي علي الآخرين.

و قد أخذت نفسي بفلسفتي أخذا صارما.. فأذكر أنني عندما تخرجت في مدرسة المعلمين العليا عرضت علي بعثة إلي انجلترا. و كانت البعثة عند ذلك هي السبيل الوحيد إلي الرقي في وظائف التعليم.. و لكني رفضت تلك البعثة بغير تردد, لأن قبولها ينطوي علي أنانية, إذ كان والدي شيخا كبيرا, و كان سفري يعرض أسرتي للحرج. و رضيت بأن أشق طريقي في الحياة مجاهدا بغير سند من الغير.و كنت سعيدا بأن أكون والدا لأخوتي عندما توفي والدي.

و قد كانت تلك الفلسفة نعمة كبري عندي, لأنها حررتني من قيود تستعبد الكثيرين من الناس. وجدت فيها حريتي من الشعور بأني لست مدينا لأحد بغير الصداقة الخالصة, و وجدت فيها حريتي من الرغبات و الأطماع الجامحة التي تضلل العواطف, و وجدت فيها حريتي من المخاوف التي تضلل الناس عن طريق الحق.

و لا أبالغ إذا قلت أن هذه الفلسفة وهبت لي السعادة الممكنة علي هذه الأرض, لأنها وهبت لي التحرر من نفسي, و جعلت لي في أعماقي صديقا و فيا.. و هو ضميري الذي لم يخذلني في يوم من الأيام مع كثرة الشدائد التي اعترضت سبيلي.

و كل ما أتمناه الآن أن أجعل أبنائي يدركون قيمة هذه الحرية التي وهبت لي السعادة, و يعملون علي أن يكونوا من أنصارها. و لهذا كنت عظيم السرور عندما أتيحت لي الفرصة لأن أكتب هذه السطور.

نبذة عن الكاتب:
ولد الأستاذ/ محمد فريد أبو حديد في سنة 1893 و بدأ دراسته المضطربة في المكتب ثم المدرسة, إلي أن تخرج في سنة 1914 في مدرسة المعلمين العليا. ثم درس القانون, و حصل علي ليسانس الحقوق سنة 1924. و قد تنقل في وظائف التعليم المختلفة حتى عين عميدا لمعهد التربية بالقاهرة, إلي أن صار وكيلا مساعدا لوزارة المعارف ثم مستشارا لها, و اختير عضوا في مجمع اللغة العربية, و منح في عام 1952 جائزة الدولة في القصة.

الكاتب: الأستاذ/ محمد فريد أبو حديد

التعليقات على الحرية وهبت لي السعادة

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
25874

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري