أعظم التجارب و أشدها أثرا في النفس هي التي تنشأ من حوادث صغيرة في أيام الطفولة. و ليس من السهل علي طفل أن يتفتح عقله إلي معاني الحياة مبكرا, و لكن هذه المعاني التي يتفتح لها عقله في صغره تكون أساس حياته.. و هذا ما كان نصيبي من الحياة.
كنت أول ولد يعيش لأبوي, و لم يرزقا ولدا أخر إلا بعد أن صرت صبيا يافعا. و قد داخلني من معاملتهما الكريمة شعور بأنني عضو مهم في الأسرة, و أنني شريك في تحمل مسؤولياتها. و كنت المح في حياة أسرتي صورة غامضة, جعلتني أعرف أن هناك فرق بين أسلوب الحياة في بيتنا و أسلوب الحياة في بيوت أعمامي و أخوالي.. كما كنت المح أن والدي كان يعاني أزمة شديدة, و يجاهد في مواجهتها جهادا عنيفا.
و في يوم من الأيام تحدثت إلي أبي في حماسة الطفولة عما رأيته عند أبناء عمومتي من اللعب و المتع. و رأيته يصغي إلى في شيء يشبه الدهشة و الحزن.. و ما كدت أفرغ من حديثي حتى و جدته يمسح رأسي و هو صامت, و أحسست أنه كان شديد التأثر, و سألني في رفق: ( أأنت حزين لا أهدي إليك مثل هذه الأشياء؟) و شعرت عند ذلك بشيء لا أستطيع وصفه بلغة الكبار.. كان مزيجا من الأسف و العطف و الاحترام. و قلت في حماسة: (أبدا). و لأول مرة في حياتي أخذت أراجع نفسي في قيمة الزخارف التي تفرق بين أسلوب حياتي, و أسلوب حياة الآخرين, و أعتز بالحالة التي أنا فيها.
و أظن أنني مدين لتلك اللحظة في أنني صرت فيما بعد أميل دائما إلي التقليل من قيمة المظاهر و المتع الكمالية.
و كان لي أبن عم يكبرني ببضع سنوات و هو عزيز عند أمي, كأنه ولدها.. و كانت تمازحني أحيانا قائلة: ( أنه أحب إلى منك, لأنني رأيته و أحببته قبلك ). و كانت قد نذرت له عندما كان في سن السابعة و كنت طفلا رضيعا, أنني إذا كبرت و بلغت سن السابعة مثله جعلتني له خادما أسوق له حماره. فلما بلغت السابعة أرادت أن توفي بنذرها, فدعت أبن عمي و أعدت له دابة ليركبها و حزمتني كخادم و أعطتني عصا و أمرتني أن أسوق له الدابة.
و أطعتها كما تعودت أن أطيعها, و لكني بكيت بكاء مرا بعد ذلك سائر يومي, برغم اعتذار أمي و مواساة أبي. و بغير أن أحس و جدت نفسي أفكر: هل أنا أقل شأنا من أبن عمي؟.. و علي أي أساس يفضل بعض الناس علي بعض؟ و أعتقد أن الأسئلة التي بدأت أوجهها إلي نفسي عند ذلك هي التي فتحت لي بابا واسعا لأسئلة كثيرة أخري عن الناس و عن الحياة.
كنت دائما أسئل, و كنت دائما أفتح عيني لأري. و كان المعني الغامض الذي تدور حوله أسئلتي هو معني العدالة في قياس أقدار الأشخاص و في معاملة الناس بعضهم مع بعض.
و في يوم من الأيام عندما كنت شابا في الثامنة عشرة من عمري, خرجت كعادتي إلي جانب نهر النيل لأتنزه و في ذهني أسئلة كثيرة: ما هذه الحياة؟ ما معناها و ما غايتها؟ و ما هؤلاء الناس؟ كيف تكون السعادة؟ و كيف تكون العدالة؟ و هل الحظوظ عادلة؟ و كانت ساعة م أصيل يوم من أيام الصيف و ماء النهر الأحمر يتدفق زاخرا بالفيضان.. ووقفت أنظر إلي اللجة المضطربة, و سرحت بأفكاري في أسئلتي الحائرة..فلمحت علي وجه الموج عودا يتقاذف به الموج. فشعرت كأن أسئلتي الحائرة تجتمع كلها عند ذلك العود المضطرب, و عبت في تأملي. و ما زلت حتى صحوت من سرحتى و قد حددت لنفسي فلسفة خاصة كان لها أثر عظيم في توجيه حياتي: الحياة زائلة و الناس يشبهون هذا العود الذي يتقاذف به الموج. هم يأتون إلي الحياة بغير إرادتهم و يذهبون عنها بغير إرادتهم. و لو جردناهم من مظاهرهم التي يخلقونها بأنفسهم لأنفسهم لعرفنا حقائق أقدارهم. و هذه المظاهر التي يخلقونها لا قيمة لها أمام الحقائق الأبدية. و مادامت الحياة هكذا, فما قيمة هذه الأغراض التي يتطاحن الناس عليها؟ .. الناس يتطاحنون ليشقوا, و الأمم تتطاحن لتشقي, و سبيل السعادة واضحة إذا فطن البشر إليها.
نحن نمر في الحياة تأدية لواجب الوجود.. فلا ينبغي أن نعقد وجودنا بالخروج عن اتجاهاتنا الإنسانية التي تفضي إلي السعادة, و هي في متناول أيدي البشر إذا شاءوا. هي في داخلهم لو تجردوا من الأنانية و الحرص و الظلم, و اتجهوا إلي التعاطف و التعاون و الخير و الرحمة و العدالة.
و كان لهذه الفلسفة أثر حاسم في توجيه مسلكي مع نفسي و مع الناس.. فأنا أومن بأن أفضل الناس هو أجدرهم بالإكبار, و أن أقواهم هو الذي يمد يده إلي الغير بالمساعدة, و أن أقلهم قدرا هو الأناني الذي يزاحم لكي يخطف ما ليس من حقه, و أما أحقرهم فهو الذي يعتدي علي الآخرين.
و قد أخذت نفسي بفلسفتي أخذا صارما.. فأذكر أنني عندما تخرجت في مدرسة المعلمين العليا عرضت علي بعثة إلي انجلترا. و كانت البعثة عند ذلك هي السبيل الوحيد إلي الرقي في وظائف التعليم.. و لكني رفضت تلك البعثة بغير تردد, لأن قبولها ينطوي علي أنانية, إذ كان والدي شيخا كبيرا, و كان سفري يعرض أسرتي للحرج. و رضيت بأن أشق طريقي في الحياة مجاهدا بغير سند من الغير.و كنت سعيدا بأن أكون والدا لأخوتي عندما توفي والدي.
و قد كانت تلك الفلسفة نعمة كبري عندي, لأنها حررتني من قيود تستعبد الكثيرين من الناس. وجدت فيها حريتي من الشعور بأني لست مدينا لأحد بغير الصداقة الخالصة, و وجدت فيها حريتي من الرغبات و الأطماع الجامحة التي تضلل العواطف, و وجدت فيها حريتي من المخاوف التي تضلل الناس عن طريق الحق.
و لا أبالغ إذا قلت أن هذه الفلسفة وهبت لي السعادة الممكنة علي هذه الأرض, لأنها وهبت لي التحرر من نفسي, و جعلت لي في أعماقي صديقا و فيا.. و هو ضميري الذي لم يخذلني في يوم من الأيام مع كثرة الشدائد التي اعترضت سبيلي.
و كل ما أتمناه الآن أن أجعل أبنائي يدركون قيمة هذه الحرية التي وهبت لي السعادة, و يعملون علي أن يكونوا من أنصارها. و لهذا كنت عظيم السرور عندما أتيحت لي الفرصة لأن أكتب هذه السطور.
نبذة عن الكاتب:
ولد الأستاذ/ محمد فريد أبو حديد في سنة 1893 و بدأ دراسته المضطربة في المكتب ثم المدرسة, إلي أن تخرج في سنة 1914 في مدرسة المعلمين العليا. ثم درس القانون, و حصل علي ليسانس الحقوق سنة 1924. و قد تنقل في وظائف التعليم المختلفة حتى عين عميدا لمعهد التربية بالقاهرة, إلي أن صار وكيلا مساعدا لوزارة المعارف ثم مستشارا لها, و اختير عضوا في مجمع اللغة العربية, و منح في عام 1952 جائزة الدولة في القصة.
الكاتب: الأستاذ/ محمد فريد أبو حديد
جميع الحقوق محفوظة لموقع د. أماني سعد - amanysaad.com 2008-2021 ©
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!