الإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، بدءاً بالعلاقة بين الخالق والمخلوقين، وانتهاءً بالعلاقة بين المسلم وأخيه، فمن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا معه غيره، ومن حقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الزوج والزوجة، وبين الجار والجار، وبين المسلم والمسلم.

وهذه الحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو من فروض الكفايات.

لقد أضاع جل المسلمين كثيراً من هذه الحقوق وقصروا فيها، وأكثر الحقوق ضياعاً حقوق الجوار، خاصة في المدن وفي هذه الأعصار.

 وإذا كان أبو حازم - رحمه الله -، وهو من التابعين، ينعي على المسلمين في وقته ضياع حقوق الجار، حيث قال كما روى عنه مالك: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:

 ناري ونار الجـار واحـدة *** وإليه قَبْلي تنـزل القـدر

  ما ضر جار لي أني أجاوره ***  أن لا يكـون لبابه ستـر

  أعمى إذا ما جارتي برزت ***  حتى يواري جارتي الخدر

 

ونحن لا نطالب الجار بما قرره هذا الشاعر الجاهلي، فهذا مطلب بعيد المنال، عزيز التحقق، ولكن نطالب الجار بالالتزام بما أمر به الشرع، نحو:

 

1. أن يتعرف عليه إذا حل في جواره.

 2. أن يبدأه بالسلام إذا خرج أو دخل.

 3. أن يشاركه أفراحه وأتراحه.

 4. أن يعوده إذا مرض أو أحد من أهله.

 5. أن يشيع جنازته.

 6. أن يتفقده إذا غاب أو مرض.

 7. أن لا يؤذيه.

 8. أن لا يتجسس ولا يتحسس عليه.

 9. أن يجيب دعوته.

 10. أن يصون حرمته.

11. أن يعينه عند الشدائد.

 12. أن يواسيه ويكثر بره ويحسن إليه.

 13. أن يستر عيبه.

 14. أن ينصح له.

 15. أن يحسن عشرته.

 

لقد ورد في ذلك حديث عن معاذ بن جبل، قال القرطبي: سنده حسن، وبيّن أهم حقوق الجار:"قلنا: يا رسول الله، ما حق الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن أعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقُتَار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سراً لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده، وهل تفقهون ما أقول لكم، لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم".

 

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.

وقال علي للعباس - رضي الله عنهما -: ما بقي من كرم أخلاقك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.

 وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.

 والجوار ليس قاصراً على السكن، وإنما يشمل الجار في السوق، وفي الزراعة، والطلب، ونحوها.

 

الجيران ثلاثة:

1. جار قريب مسلم، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام.

 2. وجار مسلم، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.

 3. جار كافر، وهذا له حق واحد هو حق الجوار.

 وحقوق الجار تتفاوت كذلك بين الجار الأقرب، والأدنى، والأبعد.

 

وصية الله ورسوله بالجار:

لقد وصى الله ورسوله بالجار حقاً، فقال - تعالى -:"واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب".[1]

 

قال القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى -:"والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله - تعالى - بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين:"والجار ذي القربى"أي القريب،"والجار الجنب"أي الغريب.

 

إلى أن قال: وعلى هذا فالوصاة بالجار مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه).[2]

 

أما الأحاديث التي توصي بالجار وتأمر بالإحسان إليه وتنهى عن أذاه فكثيرة، منها:

1. ما صح عن عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".[3]

 

2. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال:"إن خليلي أوصاني: إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءها، ثم انظـر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعـروف"، وفي رواية:"فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".[4]

 

3. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن[5] شاة".[6]

 

4. وعنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"والله لا يؤمن[7]، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه[8]".[9]

 

5. وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".[10]

 

6. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك باباً".[11]

 

حد الجيرة [12]

ذهب أهل العلم في حد الجوار مذاهب هي:

 1. أربعون داراً من كل ناحية، وهذا مذهب الأوزاعي والزهري.

 2. من سمع النداء فهو جار.

 3. من سمع إقامة الصلاة فهو جار المسجد.

 4. من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة.

 

والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض وأولى.

 

الجار الحسن يُشترى:

حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال علي: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بحسن الجوار.

 

باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص[13]؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.

 

فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم.

 

الجار السوء يباع بأبخس الأثمان:

كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي - رضي الله عنه -، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك:

 

كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله - تعالى -؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.

 

ولله در القائل:

 يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ***  ولم يعرفـوا جاراً هناك ينغصُ

 فقـلت لهـم كفــوا المــلام فإنهــا ***  بجيرانهـا تغـلو الديـار وترخـــص

 

حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً

 ورد في وفيات الأعيان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله - كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، ويقول متمثلاً بقول العرجي:

 

 أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهـة وسداد ثغر

 

ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته في كل يوم ويصبر.

 

وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسعس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره، فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومناً هذا؛ فأطلقوهم أيضاً، فذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار.

 

ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل، بسبب هذه المعاملة الكريمة ومقابلة الإساءة بالإحسان.

 

قال الأصمعي - رحمه الله -: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:

 

 جاورت شيبان فاحلوى جوارهم ***  غريباً عن الأوطان في زمن المحل

  فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ***  وبــرهــم حــتى حسبتــــهـم أهلــي

 

لقد استعاض بعض الناس من الكفار وغيرهم الكلاب بالجيران، فأصبحوا يربونها، ويعتنون بها، ويوصون لها بالأموال بعد هلاكهم، لما لمسوا من وفائها وتنكر الأهل والجيران لهم.

 

ذكر صاحب كتاب"فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -قال:"رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".

 

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -:"كلب أمين خير من صاحب خؤون".

 

وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:

 

 وما زال يرعى ذمتي ويحوطني *** ويحفظ عرسي[14] و الخليل يخون

 

 فيا عجباً للخل يهتك حرمتي *** ويا عجباً للكلب كيف يصــون

 

فاحذر أخي المسلم أن يكون الجاهليون أحسن جواراً منك، بل والكلاب، واحذر أن تكون جار سوء، واحرص أن ترعى وصية ربك ورسولك في جيرانك، واجتهد أن يكون لك في رسولك، والصحب الكرام، والسلف العظام، والجاهليين الراعين لحق الجوار الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والمثال الذي يحتذى.

 

ما نسمعه من قصص وحكايات عن سوء الجوار، وغلظتهم وغفلتهم عن حقوق إخوانهم المسلمين يندي لها الجبين، ويشيب لها الوليد، فكم سمعنا أن شخصاً مات في شقته ولم يعلم جيرانه بوفاته حتى تجيّف ويشموا رائحة ذلك فيبلغوا الشرطة فتأتي لتكسر الباب.

 

وأن شخصاً مات أبوه أو ماتت أمه ولم يجد من جيرانه من يعزيه، دعك من أن يعينه على تجهيز الميت وحمله وتشييعه ودفنه إلا عن طريق الأجرة، وهذه كلها من الحقوق الكفائية للمسلم على إخوانه المسلمين، وبالنسبة للجيران اللصيقين من الواجبات العينية.

 

وكم سمعنا أن جاراً يمرض ويذهب إلى الاستشفاء خارج البلد ولا يسمع به جيرانه الأقربون.

هذا بجانب الكيد، والتجسس، والإيذاء الحسي والمعنوي، والحسد، وغير ذلك.

فهؤلاء وأولئك لا بوصية ربهم ونبيهم عملوا، ولا بأخلاق أجدادهم تمسكوا، ولا من مسبات الأحاديث خافوا، قال حاتم الطائي مخاطباً أزواجه:

 

 أيـا ابنة عبد الله وابنة مالك ***  ويا ابنـة ذي البُرْدين والفرس الورد

 إذا ما عملت الزاد فاتخـذي له ***  أكيلاً فإني لست آكلـه وحدي

 بعيداً قصيـاً أو قريبـاً فإنني ***  أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

 وكيف يُسيغُ المرءُ زاداً وجاره ***  خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد

 

أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر:

الواجب على الجار أن يحسن إلى جاره، وأن يصبر على أذاه، ويسر لنفعه، ويحزن لضره، فإن لم تستطع على ذلك فأضعف الإيمان أن تكف عن جارك أذاك، وحسدك، وعداوتك.

 

وأنت أخي الكريم إذا ابتلاك الله بجار سوء، حسود، ظلوم، فعليك أن تصبر على أذاه، وأن تحسن إليه، فالإحسان يزيل العداوات ويصيرها صداقات، واعلم أن المؤمن مبتلى، بل"أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كما أخبر الصادق المصدوق، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.

 

فقد يبتلى الصالحون بالطغاة الظالمين، أو بالسفهاء الجاهلين، أو بالجيران المؤذين الحاسدين الحاقدين، أو بالأقارب المعادين المخاصمين، أو بالأبناء العاقين، أو بالنساء الخميم الرميم[15]، أو بالمنافقين الفاجرين، وكل ذلك لحكمة يعلمها هو، لدرجة يرفعها، أو لخطيئة يكفرها، إذا صبر العبد واحتسب.

 

قال الحسن البصري - رحمه الله -: إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه.

ولهذا قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه.

وقيل: الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب؛ لغلبة ذلك عليهم.

قال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك؛ فقال له: ولمَ لا تحبني ولست بجار لي ولا ابن عم.

وقيل: إن أحسد الناس لعالم وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.

 

وأخيراً نقول كما روي عن داود - عليه السلام - أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني، ونسأله – سبحانه - أن يوفقنا للقيام بجميع الحقوق، وأن يغفر لنا تقصيرنا في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الكاتب: الأمين الحاج محمد

التعليقات على علاقات الجيرة

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
89216

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري