مقالات الوعىالعلاقات الإنسانيةنمو الطفل › تأثيرات الميديا على الأطفال: الاستهلاكية والعنف والجنس المبكر

لا ريب أننا كلنا سمعنا الحكاية التقليدية عن النملة العاملة وجارها الصرصور الكسول, ومن الطرافة أن تنتشر بين الشباب حالياً بطابع أكثر عصرية, إذ تقول الحكاية الجديدة:(كان هناك نملة وصرصور وكانا صديقين حميمين... في الخريف كانت النملة الصغيرة تعمل بدون توقف, تجمع الطعام وتخزنه للشتاء. ولم تكن تتمتع بالشمس ولا بالنسيم العليل للأمسيات الهادئة, ولا بالأحاديث بين الأصدقاء وهم يتلذذون بشرب البيرة المثلجة بعد يوم كد وتعب... وفي الوقت نفسه كان الصرصور يحتفل مع أصدقائه في ملاهي المدينة, يغني ويرقص ويتمتع بالطقس الجميل, ولا يكترث للشتاء الذي أوشك على الحلول... وحين أصبح الطقس بارداً جداً, كانت النملة منهكة من عملها فاختبأت في بيتها المتواضع المملوء مئونة حتى السقف.. وما كادت تغلق الباب حتى سمعت أحداً يناديها من الخارج ففتحت الباب فاندهشت إذ رأت صديقها الصرصور يركب سيارة فراري ويلبس معطفاً غالياً من الفرو. فقال لها الصرصور: صباح الخير يا صديقتي! سوف أقضي الشتاء في باريس. هل تستطيعين لو سمحت بأن تنتبهي لبيتي؟ أجابته النملة: طبعاً لا مشكلة لدي. ولكن قل لي: ما الذي حصل؟ من أين وجدت المال لتذهب إلى باريس ولتشتري هذه الفراري الرائعة وهذا المعطف؟ أجابها الصرصور: تصوري أنني كنت أغني في الملهى الأسبوع الماضي فأتى منتج وأعجبه صوتي... ووقعت معه عقداً لحفلات في باريس. آه كدت أنسى.. هل تريدين شيئاً من باريس؟ أجابت النملة نعم! إذا رأيت الكاتب الفرنسي لافونتين قل له: صديقتي النملة حَمّلتني أمانة شتمك أمام قبرك!

تختم الحكاية بعبرة تقول: تمتع بالحياة وأوجد التوازن اللائق بين العمل والراحة, لأن الفائدة من العمل المبالغ فيه غير موجودة إلا في قصص لافونتين, وتذكر أن العيش من أجل العمل لا يفيد إلا رأس مال صاحب العمل الذي تعمل عنده.

لا أحد ينكر ضرورة التوازن في الحياة بين كل الأمور وأضدادها, كما أن العمل الجاد دون راحة لا يمكن أن يستمر بنفس الوتيرة والزخم لأن للإنسان طاقة يحتاج بعد استنفاذها لشيء من الراحة كي يستطيع استعادة نفسه بدل اللهاث الدائم وراء العمل؛ لكن الملفت للانتباه في القصة هو وجود التناقض بينها وبين العبرة؛ لأننا نصل إلى نتيجة هي الاستغناء عن العمل كلياً واللجوء إلى اللهو كمصدر للرزق؛ وإذا كانت الحكاية القديمة تظهر لنا كيف اكتشف الصرصور خطأه عندما أهمل العمل صيفاً فجاع شتاء, فإن الحكاية العصرية تظهر لنا أن الصرصور أوصله لهوه وكسله إلى الغنى فجأة, وهي حالات تحدث أحياناً, ولكننا نخشى أن تكون استثناءاً فتصبح قاعدة.

حالياً نرى أن قسماً كبيراً من الأولاد والبنات تسود بينهم ثقافة يمكن أن نسميها ثقافة الاستسهال, فالولد ليس مستعداً لأن يحضر طبق الطعام لنفسه لأنه اعتاد على من يأتيه به, وهذا قد يكون بسبب وجود الشغالة في البيت, أو بسبب تدليل الوالدة حتى أن بعض الجيل الجديد يعامل أمه كما لو كانت شغالة, وينظر إلى الأب كما لو أنه رهن الإشارة؛ وقد ألقت الضوء أوبرا وينفري في أحد حلقات برنامجها على الأجيال المدلّلين إلى أقصى حد في أمريكا, وهذا كان قبل الأزمة المالية, ومع ذلك فالأخبار تأتي من كل مكان في العالم تبيّن أن الأزمة المالية لم تؤثر كثيراً على رفاهية الأولاد, فقد أظهر الأسبوع الماضي برنامج مجلة الاقتصاد على القناة الألمانية بالعربية أن مبيعات ألعاب الأطفال لم تسجل أي تدنٍّ في مستواها عن السابق؛ ولا أحد ينكر على الطفل حقه في اللعب, ولكن ما يحدث في بلادنا العربية ليس بعيداً عما يحدث في بلاد الغرب, والسؤال الذي يجب أن يطرح: هل طفل اليوم يقدّر ما يفعله أبواه من أجله أم أن أكثر الآباء والأمهات خضعوا لديكتاتورية أبويهم سابقاً ويخضعون الآن لديكتاتورية أبنائهم حالياً؟ ألا نلاحظ أن جيل اليوم متطلب كثيراً ومعتاد على أن تلبى رغباته مما يجعله يفقد قيمة الأشياء ويميل أكثر وأكثر إلى النزعة الاستهلاكية؟

تعرضت – وغيري من الكتاب – في كثير من المقالات إلى تأثير التلفاز والانترنت على عقول الأطفال ونفوسهم وقد نشرت صحيفة الديلي تلغراف البريطانية في الأسبوع الماضي تقريراً حول نتائج مسح إحصائي أوضح أن تعرض الأطفال المكثف للتلفاز والانترنت يجعلهم ماديين, وهو ما يؤثر بدوره على علاقتهم مع الآباء والأمهات وعلى صحتهم أيضاً. واعتبر التقرير أن الأطفال يشكّلون جزءاً جديداً من الاستهلاكية؛ حيث إن الأطفال بعمر 16 وأقل ينفقون كل عام ما يعادل ثلاثة مليارات جنيه استرليني من مالهم الخاص على الثياب والوجبات الخفيفة والموسيقى وألعاب الفيديو والمجلات؛ وذكر التقرير أن المعلنين يستغلون بشكل صريح آلية الضغط بواسطة الأنداد – أبطال الإعلانات والذين يكونون في نفس عمر الأطفال – بينما يظهرون الوالدين كمهرجين, وهذا الأسلوب يوصل للولد أو البنت رسالة هي "أنك تساوي ما تملك".

يقرّ التقرير بما أقره كثير من المثقفين والمربين من قبل, وهو أن التلفاز يضع قدوات أخرى أمام الطفل غير الأب والأم أو المربي التقليدي الذي قد يكون المعلم أو الخال أو العم أو غيرهم, فالقدوات الجديدة هي الشخصيات البارزة والمشاهير الذين يظهرون بالإعلانات أو الدراما أو من خلال الواقع الافتراضي الالكتروني. ويذكر التقرير ما هو واضح للعيان من أن أطفال اليوم يعرفون كل شيء عن تفاصيل حياة هؤلاء المشاهير الأغنياء, الذين هم الأجمل والأكثر وسامة وجاذبية, فهذا التعرض المستمر يجعل الطفل أكثر قابلية للتأثر والامتصاص وأقل ثقة بالنفس؛ كما أن الطريقة التي يصوَّر بها هؤلاء المشاهير يشجع الناشئ تلقائياً على السعي المفرط لتحقيق الثروة والجمال.

تأثير "الميديا" على الأطفال لا يقف عند ما سبق وذكر – في مقالات سابقة - من تأخر الطفل الروحي الحركي في سنواته الأولى بل إنه يمتد حتى سنوات الطفولة المتأخرة والمراهقة, فقد وضع التقرير المتوالية بهذا الشكل: كلما زاد تعرض الطفل أو الطفلة للميديا, كلما أصبح مهتماً بالمادة أكثر, وكلما ساءت علاقته بوالديه أكثر, وكلما ساءت صحته العقلية أو النفسية.

لا ننسى طبعا تأثير العنف المشاهد على نفسية الطفل الذي لا يستطيع التفريق بين الخيال والحقيقة, وكثيرا ما يؤدي زيادة العنف المعروض على الشاشة أو في ألعاب الفيديو إلى شخصيات أكثر عنفاً وبالتالي إلى زيادة الصراع في الأسرة نفسها, وكذلك على مستوى المدرسة, فالصراع قد لا يظهر مرة واحدة فجأة ولكنه يبدو بتدرّج من أسلوب أقل احتراماً في الطفولة الأولى إلى مواقف أكثر استفزازية في مرحلة تالية إلى شخصيات وقحة في المراهقة أو حتى عنيفة في المرحلة الثانوية والجامعية.

من الأمور التي ألقى التقرير الضوء عليها أيضاًً دور الإعلام في الممارسات الجنسية المبكرة, ومن الطبيعي أن الإعلام وحده لا يتحمّل المسؤولية عن هذا الأمر, بل للوالدين دور أكيد, كأن يترك الولد أو البنت في رعاية الشغالة لفترات طويلة أو أي شخص يستغل الطفل جنسياً, أو ما يحدث أحيانا من قبل الوالدين الذين يتمسكون بالتحضر "من ذيله" دون أن يستوعبوه, فباسم إشعار الناشئ بالحق في الخصوصية ينظر إليه على قدم المساواة مع والديه, وهنا يتحمل الوالدان مسؤولية إفهام الولد أن خصوصيته هي من حقه لكن عليه أن يأخذها تدريجياً, عندما يثبت أنه أهل للثقة مرة بعد أخرى, فليس من الخصوصية أن يوضع جهاز استقبال خاص مع تلفزيون في كل غرفة وليس من الخصوصية أن يترك الطفل بسن العاشرة للانترنت كما لو أنه بسن العشرين, بل إن لكل عمر الكم المناسب من الثقة والتي يجب أن تعطى بالكيفية الملائمة.

ليس معنى ذلك أن نمنع أولادنا من وسائل الإعلام الحديثة لكن من غير المستساغ أن يفقد أولادنا براءتهم مبكرا ويتمظهرون كأبطال أفلام أو مغنين أو إرهابيين.
9/2/2009

الكاتب: دكتورة ليلى الأحدب

التعليقات على تأثيرات الميديا على الأطفال: الاستهلاكية والعنف والجنس المبكر

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
98730

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري