الحرمان العاطفي هو معاناة الإنسان مع بدايات حياته الناتجة عن غياب الأسباب الضرورية لتلبية حاجاته ورغباته النفسية من حب وقبول وتقدير وانتماء وتحقيق الذات. وهذا الحرمان يشعر به الإنسان في أيامه الأولى من الحياة وهو ما صرحت به الدراسات الحديثة والتي غيرت الكثير من مسارات الدراسات النفسية لسلوك الإنسان عندما أعلنت أن الأطفال الذين يتعرضون لفقدان أمهاتهم بعد الولادة مباشرة إلى الوفاة بنسبة 75% بسبب حرمانهم من دفء وحنان لمسة وحضن الأم الذي ينقل له القبول والحب والاحتواء والحماية عندما يخرج من الرحم إلى العالم الجديد الواسع والغريب عنه.

فالحرمان العاطفي يسبب خللا نفسيا نتيجة لما يخلقه من الخوف والقلق والتوتر والنظرة الدونية للذات داخل الطفل، كما يسبب خللا في السلوك فهناك دراسات اجتماعية وجدت علاقة قوية بين الحرمان العاطفي والسلوك العدواني عند الأطفال والمتمثل في الكذب والسرقة والعنف والشذوذ، وأيضا خلل شخصي متمثل في الصراع الحاد بين العزلة والانطواء والعدوانية والعنف التي قد يلجأ إليها الأطفال كحيل دفاعية لإثبات وجودهم فالحرمان يجعل من الأطفال كتلا من جحيم متوتر متهور قابل للانفجار عند أول احتكاك، كما أن الأطفال الذين يعانون الحرمان لا يسلمون من العاهات الجسدية المتمثلة في الحركات اللاإرادية سواء الخاصة بهز الرأس أو الجسم أو الأرجل والأيدي ورعشة الجفون وقضم الأظافر ومص الإصبع وصولا للتلعثم في الكلام والتبول اللاإرادي، ومن أخطر ما يجنيه الأطفال من الحرمان والتي أشار إليها العالم السويسري جان بياجية صاحب نظريات التعلم انه يؤثر سلبا على النمو المعرفي عند الأطفال والذي يتمثل في قدرات ذكاء محدودة ومتواضعة أو في صعوبات التعلم أو بطء التعلم.

ومظاهر الحرمان تختلف بين الإناث والذكور فالبنات تظهر في النهم أو الامتناع عن الأكل أو تدمير العرائس والصبيان في العراك والمعاكسات ومما سبق نستطيع أن نفهم أسباب شكوى الآباء من عاهات أبنائهم التي صنعوها بأيديهم وتصرفاتهم العشوائية في التعامل مع هذه الطينة الطرية التي كانت بحاجة إلى نحات مبدع يعرف كيف ينحت منها نموذجا صالحا للحياة فالحرمان العاطفي الذي يتعرض له الأطفال قد يكون مقصودا عندما يأتي الطفل للحياة في وقت غير مرغوب فيه بالنسبة للآباء نتيجة علاقات غير شرعية أو لأسباب جنسه (ذكر أو أنثي) الذي قد يرغب الآباء في الجنس الآخر أو بسبب الخلافات الزوجية وعدم استقرار الحياة الأسرية فالأطفال يتأثرون بالمناخ الأسري الذي تسوده المشاحنات والمشاجرات التي تمثل التراكمات البصرية من مشاهدة صور الصراع المختلفة بين الآباء ومعايشتهم لها والإحساس بها، كما أنه يكون بدون قصد أو وعي ودراية من الآباء عندما ينشغلون بأعمالهم أو ببعضهم البعض بعيدا عن الأبناء وقد يكون بسبب الجهل لأهمية الإشباع العاطفي للطفل أو كيفية الإشباع فهم يهتمون بتعلمهم، ملبسهم، طعامهم فقط مما يجعله ضحية لهذه المشاعر السلبية.

أيها الآباء الإشباع العاطفي لا يتوقف على الكم أي على عدد الساعات التي اقضيها مع طفلي ولكنه يتوقف على الكيف بمعنى ماذا أقوم به معه في الوقت المتاح من ممارسة الأنشطة المشتركة والسماع لأحلامه ومناقشة كيفية تحويلها إلى واقع وإتاحة الفرصة للتعبير عن نفسه دون خوف فالأطفال هم الحلقة الأضعف في حلقات الأسرة وبالتالي في المجتمع لأنهم الأقل خبرة في التعامل والتكيف مع تجارب الحياة مما يعرضهم للانكسار وللإصابات التي من المحال شفائها، فكما يحتاج الأطفال إلى عقولنا وخبراتنا وتجاربنا في تربيتهم يحتاجون أيضا الى أحضاننا وقبلاتنا وقلوبنا المفتوحة وأذهاننا الصافية التي لا يغشاها قلق لخلق جو من الاستقرار والاستمرار في النمو العاطفي السليم حتى نبني جيلا متواصلا متأصلا متكاملا وقبل ذلك تفرح بهم عيوننا في شيخوختنا.

الكاتب: د. عبلة مرجان - الاتحاد الإماراتية

التعليقات على الحرمان العاطفي

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
87902

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري