اضطرابات الشخصية

بداية يجب أن نُفرِّق بين ثلاثة مستويات من الأمراض في الطب النفسي، فالمستوى الأول هو النُفاسات (بضم النون) وتشمل: الفصام، والهوس، والاكتئاب الكبير، وهذا المستوى هو الأخطر في الطب النفسي، والمستوى الثاني هو العُصابات (بضم العين) وتشمل: عصاب القلق، وعصاب الاكتئاب، وعصاب الرُهاب، وعصاب الهستريا، وعصاب الوسواس القهري، والمستوى الثالث هو اضطرابات الشخصية وتشمل: الشخصية الوسواسية، والشخصية الهستريائية، والشخصية الزوَرية، والشخصية الانفعالية، والشخصية الفصامية، والشخصية المعادية للمجتمع.

والأمر الآخر الذي يجب توضيحه هو أنّ هذه الاضطرابات قد تبقى ملازمة للإنسان وقد تتحول إلى العُصاب أو النُفاس، فالشخصية الوسواسية قد تتحول إلى عصاب الوسواس القهري، والشخصية الزوَرية قد تتحول إلى الفصام الزوَري، ولذلك فإنّ معرفة الشخص لنفسه وأنه مصاب بأحد اضطرابات الشخصية مفيد من ناحية العلاج الذي قد ينتهي بالشفاء أو بمنع تفاقم الحالة أو تحولها إلى العُصاب أو النُفاس.

تعريف الشخصية:

الشخصية كما في علم النفس هي الأنماط السلوكية (أفعال، أقوال، استجابات) التي يظهرها الفرد في مختلف الظروف والتي تعطي انطباع أو مؤشر إلى الطبيعة الداخلية لذلك الفرد، وهي تشمل السمات الفيزيائية والقدرات العقلية والقدرات الاجتماعية، كما إنها تتضمن المزاج المميَّز والقيم والمعايير التي يؤمن بها الفرد والقدرة على الإبداع والمبادرة، فالشخصية تعني باختصار: مجموعة الخصائص العامة والسلوكية التي تميِّز فردا عن آخر، والعوامل المحددة للشخصية عي ثلاثة عوامل: الصفات الفيزيائية، والقدرات العقلية، والجوانب العاطفية، ومن الناحية الشعبية فإنّ مصطلح الشخصية يعني قدرة الفرد على إظهار وعرض نفسه أما الآخرين، وهذا المفهوم لا يختلف كثيرا عن المفهوم العلمي للشخصية لأنّ قدرة الشخص على إظهار نفسه بشكل جيد أو سيئ تتوقف على طبيعة الدوافع والعواطف والقدرات العقلية عنده.

إنّ تحديد وتعريف الحدود الفاصلة بين السواء واللاسواء وبين الطبيعي والمرضي في الشخصية كان من أكبر الصعوبات التي واجهت المختصين في علم النفس والطب النفسي والذين درسوا مفهوم الشخصية، ولذلك توصل المختصون بالدراسات النفسية إلى معيارين في تقييم الشخصية والتفريق بين الشخصية السوية والشخصية المرضية:

(المعيار الأول) وهو المعيار الإحصائي: وفيه تعتبر الشخصية المرضية هي الشخصية التي تنحرف كميا عن المعيار الطبيعي المعتمد في اختبارات الشخصية، وعادة يستخدم هذا المعيار ويُعتمد في الأبحاث المتعلقة بالشخصية.

(والمعيار الثاني) هو المعيار الاجتماعي: ويعتمد على الدراسات الاجتماعية والملاحظات الاجتماعية من قبل المختصين النفسيين، وفيه تعتبر الشخصية غير سوية عندما يعاني الشخص نفسه أو الآخرين من اضطراباته، وهذا المعيار هو المستخدم في الممارسات السريرية، فالشخص السوداوي هو أول ضحية لسوداويته وهو الذي سيدفع ثمن المعاناة من السوداوية، والشخص العدواني الذي يمارس العدوانية دون الشعور بالندم سوف يعاني الآخرون من عدوانيته، علما أنّ الشخصية العدوانية أو السادية هي الشخصية التي تمارس إيذاء الآخرين وإيلامهم دون الشعور بالندم أو الخطأ من الفعل.

ويعتبر تصنيف اضطرابات الشخصية من أصعب المواضيع في الطب النفسي، ومع ذلك فهناك طريقتان في تصنيف اضطرابات الشخصية: (

(الأولى) وتسمى الطريقة الوصفية: وتعتمد على استخدام مصطلحات محددة لتوصيف اضطرابات الشخصية كالقول بأنّ هذه الشخصية عدوانية، ولا تعتمد على معايير محددة لتعليل هذا التوصيف.

(والثانية) وهي الطريقة الوصفية السببية:وهي تعتمد على التوصيف المبني على الأسباب كأن يقال هذه الشخصية فصامية لأنّ الأوصاف التي تميِّزها تتقارب مع الأوصاف الموجودة في الفصام حيث قد يكون هناك عامل مشترك بين الفصام والشخصية الفصامية، ويقال مثل ذلك في الشخصية الهستريائية أو الوسواسية أو السوداوية التي تتقارب مع الاكتئاب كعُصاب أو كنُفاس، وقد اعتمدت هذا التصنيف منظمة الصحة العالمية في إحدى طبعاتها.

أسباب اضطرابات الشخصية:

إنّ الشخصية من حيث النتيجة هي محصلة تضافر عاملين: الوراثة والبيئة، ولذلك فإنّ اضطرابات الشخصية يمكن أن تكون بسبب العوامل الوراثية أو بسبب العوامل البيئية أو بسبب كليهما.

أولا: العوامل الوراثية:

فالتجارب التي أجريت على التوائم بنوعيها الحقيقي وغير الحقيقي لمعرفة أثر الوراثة في اضطراب الشخصية أكدت أنّ السمات العامة للشخصية تعود أساسا للعوامل الوراثية، فالسواء أو الاضطراب في الشخصية يعود إلى العوامل الوراثية، وهناك فرضية تقول: إنّ اضطراب الشخصية هو في الأصل شكل متطرف من الاختلاط الجنيني إلا أنه من الصعب وضع هذه النظرية موضع الاختبار العلمي، ومن أشهر الدراسات التي تربط بين البناء الجسدي والسمات العامة للشخصية هي دراسة كريشمر التي صنَّفت الناس إلى ثلاثة أنواع: البدين والنحيل والرياضي، وفي دراسات حديثة وُجد أن هناك ترابط بين ثلاثة عوامل هي: البناء الجسدي والشخصية والمرض النفسي، فالشخصية الفصامية قد تكون تعبيرا عن عملية مرضية توقفت في حد وسط بين السواء والفصام، والمصابون بالشخصية الفصامية أكثر ميلا من غيرهم للإصابة بالفصام، وكذلك الشخصية الدورية هي تعبير عن عملية مرضية توقفت في منتصف الطريق بين السواء والهوس الاكتئابي، وأصحاب هذه الشخصية أكثر ميلا من غيرهم للإصابة بالهوس الاكتئابي.

ثانيا: النظريات النفسية:

فالتربية والبيئة لهما أثر كبير في عملية تشكل السمات العامة للشخصية السوية، ولكن لم يتم التوصل إلى تأكيد على الصلة بين العوامل البيئية والتربوية وبين الشخصية المرضية، ومدرسة التحليل النفسي التي أسسها فرويد تفسر هذه العلاقة بين العوامل البيئية والتربوية وبين اضطرابات الشخصي، حيث يرى فرويد أنّ الشخصية والسلوك هما محصلة لمجموعة غرائز وميول لاواعية مضافا إليها عادات مكتسبة مع أنماط استجابات متعلَّمة، وقد ركز فرويد على أهمية السنين الخمس الأولى من حياة الفرد وقسَّمها إلى ثلاثة مراحل هي: (الفموية، الشرجية، الجنسية) وافترض أنّ كل فرد يجب أن يجتاز هذه المراحل دون إحباطات أو حرمانات كي تنمو شخصيته بشكل سوي، ولكن الفرويديون الجدد لم يشاركوا فرويد في نظريته بالتركيز على الغرائز وإنما ربطوا تطور الشخصية بالعوامل الاجتماعية.

اضطرابات الشخصية من حيث التصنيف السريري:

أولا: الشخصية الوسواسية:

إنّ السمات الوسواسية العامة تظهر وبشكل اعتيادي في السلوك اليومي للأشخاص الأسوياء، فمن الصفات المقبولة والمستحسنة: (1) أن يكون الفرد دقيقا في أدائه لعمله، (2) ويمكن الاعتماد عليه في أدائه للمهمات التي يكلف بها في حياته العملية والاجتماعية، (3) يحافظ على مواعيده، (4) ويلتزم بالقوانين والمبادئ والقيم العامة، أما في حالات اضطراب الشخصية فإنّ هذه السمات الوسواسية تأخذ شكلا حادا وغير مقبول اجتماعيا، وتتوضح (5) بعدم قدرة الشخص على التكيف مع الظروف الجديدة التي تواجهه، (6) ويكون المضطرب متصلب في وجهات نظره لا يتقبل الآخرين، (7) وينزعج من أي تغيير ويفضل نظاما من الحياة مكرر ومعروف لديه، (8) ويفتقر هذا النمط من الشخصيات عادة إلى الخيال الخصب والنافع، ويفشل في الاستفادة من الفرص التي تتاح له، (9) وأحد أهم مظاهر الوسواس المرضي هو التردد والخوف من الوقوع في الخطأ وهذا ما يجعل الشخصية الوسواسية غير قادرة على اتخاذ القرار حيث يظل خائفا من أن يكون القرار الذي سيتخذه غير سليم، وعندما يتمكن من اتخاذ القرار فإنه يظل في شك من قراره.

ثانيا: الشخصية الهستريائية:

إنّ العامل المؤهب الأساسي للشخصية الهستريائية هو الحرمان بعد فترة طويلة من الدلال، والميزات الرئيسية لهذا النوع من الشخصية هي: (1) الرغبة النهمة للشهوة والأشياء الجديدة، (2) ويتركز سلوك الشخص حول ذاته ومنفعته ويصبح أهم شيء في الحياة هي نفسه فقط، ولا يعبأ بمشاعر الآخرين وتصبح منفعته الذاتية هي المعيار الأساس لكل علاقاته (الأنانية وحب الذات)، (2) ومن المظاهر الأخرى لهذا النمط من الشخصية هو البحث الدائم عن خبرات جديدة تترافق مع حماس قصير الأمد، (3) وهو يمتلك استعدادا شديدا وسريعا للضجر، (4) وتمتاز الشخصية الهستريائية بالغرور وكثرة المطالب، (5) وقد يلجأ إلى أساليب الابتزاز العاطفي مع أهله وأقربائه، وقد يلجأ لمحاولات انتحارية استعراضية مع مشاهد ثورات غضبية، وعادة ما يستعمل الشخص الهستريائي مثل هذه الأعراض لتحقيق أغراضه ومآربه، (6) وتتأثر الحياة الجنسية للشخص المصاب بالسمات الهستريائية وخاصة عند النساء حيث تظهر الأعراض الهستريائية باللجوء إلى الإغراءات الجنسية المثيرة والتي يقابلها في الحقيقة البرود الجنسي.

ثالثا: الشخصية الزوَرية (الاضطهادية( :

(1) أهم مظهر من مظاهر اضطرابات الشخصية الزوَرية هو الشك والحساسية، وتظهر السمات الشكوكية المرضية في عدة أوجه، كأن يعتقد الشخص أنّ جميع الناس يحاولون خداعه والاحتيال عليه، وهو لا يثق بالآخرين ولا يستطيع أن يقيم علاقات صداقة معهم، وقد يبتعد عن المشاركة في النشاطات الاجتماعية أو في العلاقات التي تتضمن عدة أشخاص، أما الآخرون فيعتبرونه شخصا يُخبِّئ وراء شكوكه أسرارا كثيرة، ومثل هذه السمات تكون عادة تربة صالة للغيرة.

(2) وأحد المظاهر المهمة لهذا الاضطراب هو شعور الشخص بأهميته وبشكل غير عادي، حيث يصاحب ذلك شعورا داخليا بأنه موهوب وقادر على إنجاز أعمال باهرة، وفي بعض الأحيان يعتقد بأنّ الآخرين هم العقبة التي تعيق تحقيق هذه الإنجازات.

(3) والحساسية المفرطة هي أيضا أحد سمات هذا الاضطراب، ويظل المضطرب عُرضة دائمة للشعور بالإهانة والخجل، والتي بدورها تؤدي إلى مزيد من الشكوك بالآخرين، وقد تتحول هذه المشاعر إلى هذيانات اضطهادية.

رابعا: الشخصية الانفعالية (الدورية( :

(1) إنّ من أهم مظاهر الاضطرابات الانفعالية هو تقلب مزاج الشخص المضطرب وبشكل دوري من مزاج إلى آخر, ويبدو الشخص حزيناً بدون سبب ظاهر, (2) وهناك قسم من المضطربين انفعالياَ يعانون من حالة سوداوية دائمة ومزاج منخفض, وتسمى هذه الحالة باضطراب الشخصية السوداوي, (3) أما القسم الآخر فعلى العكس يعانون من شعور حاد بالسعادة والتفاؤل والاندفاع الشديد للحياة, وقد يظهرون فقر في محاكمة الأمور بشكل سليم واندفاع في اتخاذ القرار, وقد يمرون بفترات من القلق خصوصاَ إذا أحبطت أهدافهم.

خامسا: الشخصية الفصامية (الانطوائية( :

(1) من السمات العامة للشخصية الفصامية العيش في عالم الخيال وأحلام اليقظة بدلاَ من ممارسة الأعمال المفيدة, ويظل المضطرب مكتفياَ بنفسه معزولاَ ومفصولاَ عن الواقع والناس,(2) ويعتقد كريشمر, وهو أول من استخدم هذا المصطلح, أن هناك علاقة سببية بين الشخصية الفصامية ونُفاس الفصام, إلا أنه لوحظ سريريا أن هذين المرضين لا يترافقان دائماَ,(3) وتتصف الشخصية الفصامية بالبرودة والفقر في العواطف تجاه الآخرين, وهذا المظهر هو انعكاس لعدم قدرة المصاب بهذا الاضطراب عن التعبير عن عواطفه, لذلك فهو غير قادر على الارتباط بصداقات حميمة, (4) وأكثرهم يبقون من دون زواج, ولا يهتمون بآراء الآخرين وغالباَ ما تكون عقلية المصاب بهذا الاضطراب خيالية أكثر مما هي عملية, حيث يمتاز بقدرة عالية على الاستبطان والخيال الواسع الخصب والخالي من المحتوى العاطفي.

سادسا: الشخصية السيكوباتية (المعادية للمجتمع( :

تتميز الشخصية المعادية للمجتمع بانعدام المشاعر الإنسانية حيث إن مفاهيم الضمير والخجل والحنان والشفقة هي مجرد كلمات لا معنى لها عند أصحاب الشخصية السيكوباتية, ونظراَ لأن صاحب الشخصية السيكوباتية يمتلك ذكاء فوق المتوسط فإنه يكون قادراَ على تمويه حقيقته وإخفاءها عن المجتمع, وبالتالي ممارسة العدوانية بطرق قد يكون من الصعب كشفها, وتوجد مثل هذه الصفات السيكوباتية في قسم من المصابين بالفصام, وقد تظهر عقب تعرض الشخص لهبوط بالدماغ بعد حادث ما, ويتفق الباحثون على كون الشخصية السيكوباتية هي شخصية: غير ناضجة, طفولية, أنانية, مغرورة, قاسية, تبحث عن إشباع غرائزها الأولية, وعادة ما تكون أهدافها قصيرة المدى, وتكيفها الاجتماعي غير مقنع أو غير موجود, وأهم سمات الشخصية السيكوباتية هي:

(1) مستوى جيد من الذكاء مقابل عواطف غير حميمة.

(2) عدم وجود هذيانات أو دلائل تشير إلى تفكير غير عقلاني.

(3) لا يمكن الاعتماد عليه فهو غير صادق.

(4) عدم الشعور بالخجل أو الندم عند اقتراف ذنباَ أو خطأ.

(5) قصور في السلوك الاجتماعي.

(6) فقر في المحاكمة المنطقية للأمور وعجز عن التعلم من التجارب.

(7) الاستجابة الانفعالية أدنى من المستوى المطلوب وأحياناَ معدومة قياسا مع الشخص العادي.

(8) فقر في البصيرة.

(9) عدم الاستجابة للعلاقات الإنسانية.

العلاجات في اضطرابات الشخصية:

(1) هدف العلاج في اضطرابات الشخصية يجب أن يكون متواضعا حيث إن مثل هذه الحالات تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تظهر النتائج الأولية للعلاج, فتأثير الأدوية في معالجة الاضطرابات الشخصية قليل الفعالية, وقد تعطى المهدئات البسيطة لفترة قصيرة من الوقت خاصة في فترات التوتر النفسي الشديد.

(2) العلاج النفسي يمكن أن يساعد الشباب من المصابين بالاضطرابات الشخصية, والذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس, أو الذين يعانون من صعوبات في تحقيق علاقات اجتماعية سليمة, أو الذين تعوزهم القدرة على أمورهم الحياتية.

(3) التحليل النفسي قليل الفائدة مع الشخصيات السيكوباتية حيث إن قسم منهم يتحسن بالعلاج الجماعي, وقد تحتاج بعض الحالات من الشخصيات السيكوباتية إلى الإشراف والتشجيع لفترات طويلة تمتد إلى سنين.

الكاتب: الدكتور كمال المويل

التعليقات على اضطرابات الشخصية

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
25618

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري