مقالات الوعىالعلاقات الإنسانيةالصداقة › هل لديك صديق حقيقي؟

هل لديك صديق حقيقي؟
بقلم: دكتورة ليلى الأحدب جريدة الوطن السعودية  ما أكثر ما يمتهن الناس كلمة "صداقة" و"صديق" مثلما يمتهنون كلمات "الحق" و "الخير" و " الجمال" و "المحبة" و"الحرية" وما أشبه؛ فما كل عشير أو رفيق ولا كل من طابت لك مجالسته ومحادثته بالصديق؛ بل الصديق هو الذي يأتيك لحاجة في نفسك إليه, وفي نفسه إليك, مثلما تأتي النحلة الزهرة لحاجة فيها إلى الزهرة وفي الزهرة إليها؛ فتكسب الزهرة من النحلة اللقاح الذي لولاه لظلت زهرة عقيمة, وتكسب النحلة من الزهرة الرحيق الذي لا حياة لها إلا به؛ وإذ ذاك فأخذ الواحدة من الأخرى هو, في الواقع, عطاء في سبيل البقاء. والصديق هو الذي تتضخم في عينه محاسنك, وتتقلص معايبك, والذي لا يحسدك إذا كنت أغنى منه في أي ناحية من النواحي, بل يتمنى لك المزيد, ولا يكبر عليك إذا كان أغنى منك, بل يجعلك تشعر كما لو كنت أنت الغني وهو الفقير. والصديق هو الذي يخدمك ولا يستخدمك, ويعطيك ولا يستعطيك؛ والصديق هو الذي يفهمك بغير كلام وتفهمه بالإشارة, فروحك وروجه زهرتان أو ثمرتان على غصن واحد.

هذه الكلمات التي افتتحت بها مقالتي هي لأديب المهجر (ميخائيل نعيمة) مقتبَسة بتصرف من سيرته الذاتية المسماة "سبعون" بعد أن قارع الحياة وقارعته, فنهل منها ماء عذباً فراتاً ومالحاً أجاجاً, ثم استخلص العذوبة وأودعها كتابه الرائع؛ وكنت قد سجّلت هذه الكلمات على ورقة لدى قراءتي كتابه منذ اثني عشر عاماً, وكنت أظنها مجرد قطعة أدبية فيها من الخيال أكثر مما فيها من الواقع, أو أنها في أحسن الأحوال كلمات لا تخلو من مبالغة الأديب في وصف علاقته بأحد أصدقائه؛ وظني هذا ناجم عن تبخّر علاقات الصداقة نتيجة تضارب المصالح بين الناس, ولا أبرئ نفسي الملومة والملولة إذ طالما خشيت من علاقات شخصية تلزمني بأشخاص من خارج الأسرة فيها من الخسارة - المعنوية غالباً – أكثر مما فيها من الربح؛ كما أني كنت أرى الصداقات بين الإناث تحرقها نار الغيرة ويكسوها غبار الثرثرة, فتكوّن لدي انطباع منذ طفولتي ومراهقتي أن الإناث يفتقدن الإخلاص في الصداقة - مع نفس الجنس طبعاً- وإن كنّ يتفوّقن على الذكور في الإخلاص في علاقاتهن مع الجنس الآخر.

بقي ذلك الانطباع مؤثراً فيّ إلى أن التقيت فاطمة, وكانت قد جاءت عيادتي كمريضة تراجع المركز الطبي الذي أعمل به, ولم يكن بها أي مرض سوى ومضات من الاكتئاب لاحت أثناء حديثها معي بسبب زواجها من سعودي التقت به في أمريكا حيث كانا يدرسان اللغة الانكليزية في نفس المعهد, وسبب الاكتئاب هو شعورها بالغربة رغم أنها أصبحت سعودية بعد أن أنعم الله عليها بأولاد وبنات من زوجها المحبّ, ولكن فاطمة كانت تبحث عن الرفقة خارج أسرتها فلا تجدها, وتطلب عملا بشهادتها الجامعية فلا تصل إليه, مما جعلها تفتقد تحقيق ذاتها بالعمل أو بالنشاط الاجتماعي؛ وهو ما أدخل اليأس إلى فلبها والاكتئاب إلى روحها فسال دمعها أمامي وهي تحكي لي جزءاً من قصتها, فخفّفت عنها ببعض الكلمات, وكان أن دعتني إلى بيتها بمناسبة عيد ميلاد ابنتها الوسطى, فلبّيت الدعوة, ولم أتفأجأ بأن معظم المدعوّين من الأطفال. 

فاطمة تستقي براءتها من حبها للطفولة, وتحكي لي قصة معزتها التي توفيت عندما كانت طفلة في العاشرة وكيف دفنتها خارج القرية ونصبت لها خشبتان عند رأسها وقدميها لتأتي لزيارتها, وأحكي لي قصة البطة التي كانت أمي تربيها على سطح بيتنا وكيف أني خشيت عليها الجوع فلم أجد حلاً سوى فرم بعض البصل لها مما أثار حساسية في عينيّ جعلت طبيب العيون يضحك من قصة البطة وصاحبتها التي لم تتجاوز الخامسة.

كثيرة هي المشتركات بيني وبين فاطمة؛ وإذ تدعوني إلى بيتها فأدخل وأشم رائحة النظافة أعلم أنها استغنت عن الخادمة وأدرك أن نظافة بيتها التي تلوح من الخارج ليست إلا جزءاً يسيراً من نظافة نفسها التي تنبعث من الداخل؛ وأدخل معها مطبخها فتزكم أنفي رائحة طبختها الزكية والتي يشتهر بها أهل بلدها الأصلي, وأقف معها داخل المطبخ قرب النافدة المطلة على فناء البيت فأرى غسيلها المنشور على الحبل بترتيب لافت, وأناولها حبات الطماطم لتكمل فرم السلطة, ولا أدري سبباً يفسّر رائحة أمي المرحومة تفوح من فاطمة, مع تراكم المشهد في حواسي كلها, سوى نكوصي اللاشعوري إلى الطفولة حيث لحظات الأمان في حضن أمي, فأنحني على فاطمة وأقبلها كما كنت أفعل مع والدتي.

صفات فاطمة وفضائلها لا تنتهي, وأعرف أن كثيرين ممن يقرؤون مقالتي سوف يحسدونني على هذه الصديقة, والصداقة من الصدق, والله يعلم مدى صدقي في محبتها, فلا أزال أذكر اتصالها بي في العيادة وهي طريحة الفراش تحكي لي معاناتها وعدم قدرتها على القيام والحركة, وكيف أثّر ضعف صوتها بي, فتوسلت إلى الله بعد صلاة الظهر, ودموعي تسبق ابتهالاتي, أن يعافيها من كل سوء, ثم لم أستطع البقاء في مكاني دون فعل شيء, فاستأذنت من عملي ساعة لزيارتها, ولما رأيت حالتها الصحية المتردية اتصلت بزوجها الذي كان في عمله ليأتي ويساعدني على نقلها للمستشفى حيث تم إجراء عملية سريعة لها, وبعد خروجها من المستشفى علمت أنها تخشى من تناول الطعام لأن العملية لها علاقة بالجهاز الهضمي, فشجّعتها بالكلام ثم زرتها في أقرب فرصة سانحة؛ وعندها حوّلتُ غرفة نومها إلى مطبخ مؤقت لإنجاز ما تبقى من عمل الكبة الشامية بجانب فراشها وحولي بناتها, وبعد أن أنهيت طهوها أكملت إعداد التبولة اللبنانية التي تحبها والتي تساعد على الهضم, ثم وضعت وبناتها الطعام على السفرة المفروشة قرب سريرها, وأخذت أطعم فاطمة بيدي كما كنت أفعل مع ابني الصغير.

إنها صديقتي, فهل استطاع القارئ الكريم أن يعلم من هو صديقه الحقيقي؟ إنه الذي تشعر به تارة في محل والدك أو والدتك, وتارة أخرى تشعر به وكأنه ابنك أو ابنتك؛ وهو الذي ينبع منه الأمان فكأنه الجذع الذي يحضنك بمحبة معطّراً إياك بأصالته, وهو الذي تثار الرحمة لأجله في قلبك فكأنه الفرع الذي تنثني عليه بشفقة محيطاً إياه بحنانك.

كثيرة هي قصصي مع فاطمة, ليس أولها ذهابي إلى المدينة المنورة منذ عدة سنوات مع أسرتي ورغبة فاطمة بصحبتنا لولا ظروفها الأسرية, وإن أنسى لا أنسى روحها المشتاقة إلى ساكن القبر الشريف تلفّ حولي وأنا جالسة قرب الروضة وكأنها تذكّرني بأداء أمانة السلام, ولما عدت وذكرت ذلك لها صارحتني أن شوقها للزيارة وامتناعها عنها طاعة لزوجها جعلته يكافئها باصطحابها للعمرة, وكيف أنها دخلت مسجداً على الطريق بين جدة ومكة فوجدت القسم النسائي بحاجة إلى التنظيف فأمسكت بالمكنسة وهي توجّه النساء إلى احترام قدسية المكان, لكن انفعالها الصادق جعل بعضهن يُغلظ لها القول, ولم تدخل الراحة إلى قلبها إلا بعد أن وقفت خاشعة بين يدي ربها وهي تصغي للآيات الكريمة التي يتلوها الإمام:(ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)؛ أما آخر موقف لفاطمة معي فلن أذكره خشية الإطالة, لكن يكفي أنه جعلني أعلم بأني لو وضعت النساء اللواتي أعرفهن في كفة ووضعت فاطمة في كفة لرجحت كفتها!

ليست مقالتي بقصد عرض شيء من السيرة الذاتية, لكنها تذكرة بجمال علاقة اجتماعية أفقدنا إياها الانشغال واختلستها منا المظاهر واستغنينا عنها بالاتصالات التكنولوجية صمّاء المشاعر, وهي أيضاً شكر علني لصديقة ليست مجهولة في محيطها الأسري, إنما هي جوهرة مكنونة تَمحْورت حياتها حول علاقاتها المقربة بسبب الظروف الاجتماعية السائدة, مع أنها امرأة عظيمة كانت لتكون مطراً متدفقاً ونبعاً ثرّاً لو مكّنتها الأحوال من استثمار روحها الخلاقة وقلبها المحب وعقلها اليقظ.

الوطن السعودية 6/10/2008

الكاتب: الدكتورة ليلى الأحدب

التعليقات على هل لديك صديق حقيقي؟

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
8612

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري