إنَّ الإنسان إذا تجرد عن الإيمان ضَعُفَ، ولا أدلَّ على ضعفه من ذلك القلق الذي يحيط به، ويجعل من حياته جحيماً لا يكاد يُطاق، إن أصابه شر جزع، وإذا أصابه خير منع، و لهذا لا يريد لخيرٍ أن يصل لأحد غيره، وليس لأحد أن يسلم من هـذا، إلاّ من كان مؤمناً دائم الإيمان، وذا صلة بربه في كل حين. قال تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ). [المعارج: 19- 23].

وهذا الداء الذي احتوش البشرية إلاّ من رحم ربك، وقليل ما هم، هو ما اصطلح عليه لدى المتأخرين بالقلق، وهو: حالة من التوتر النفسي ينشأ بسبب صراع داخلي في النفس الإنسانية؛ لذا أُطْلِق على عصرنا هذا عصرَ القلق، والعقد النفسية، والأمراض العصبية.

ولا بد أن ندرك أن ثمة صلةً بين الأمراض العصبية والعضوية، وغالباً ما يكون القلق سبباً رئيساً فيها. يقول ابن القيم رحمه الله: »أربعة يهدون البدن: الهم والحزن، والجوع والسهر ».

والقلق من جند الله يسلطه الله على من يشاء من عباده؛ سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): من أشد جند الله؟ قال: الجبالُ، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يطفئ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم، فأقوى جند الله الهم يسلطه الله على من يشاء من عباده، فانظر يا رعاك الله كيف تدرج الإمام بالسائل؛ ليوقفه على هذه الحقيقة، التي طالما غفل عنها الكثير من الناس.

وبذا ندرك أن الطمأنينة والسكينة، منةً ونعمة من الله سبحانه وتعالى، يهبها من يشاء من عباده المؤمنين؛ بينما القلقُ والهمُّ غضبٌ من الله يقذف به في قلوب من عصوه؛ يتضح ذلك جلياً في المواقف الحرجة، ومصداق ذلك ما حدث في غزوة أحد؛ إذ جعل  الحق تبارك وتعالى السكينة في قلوب المؤمنين. قال تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). [ آل عمران: 154 ]، فشتان شتان بين الفريقين ؛ فريق يتنعمون في رياض السكينة، وفريق يتلمظون في ظُلَلِ القلق الوبيلة؛ لذا كان اللجوء لرحبة الإيمان، فيه الخلاص منها. دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً، فوجد أبا أمامــة (رضي الله عنه) ، فقـال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مالي أراك في غير أوقات الصلاة»، قال: يا رسول الله، هموم لزمتني وديون، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتها في صباحك ومسائك أذهب الله همك وقضى عنك دينك»، قال: بلى يا رسول الله، قال: قل: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز و الكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، يقول أبو أمامة: فما زلت أرددها فرفع الله همي، وقضى عني ديني.

وقد يكون الباعثَ على القلق وساوسُ الشيطان وتوهيماته؛ خاصة إذا كان القلب خلواً من ذكر الله سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً هذا المعنى: «إن الشيطان واضع خطمه ـ أي خرطومه ـ  على قلب ابن آدم؛ فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل التقم قلبه»، وأحاطه بوساوسـه؛ لذا أرشدنا الحق سبحانه وتعالى للاستعاذة من الشيطان ووساوسه، فقال سبحانه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ  إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس:1- 5].

ومن الوساوس التي يلقي بها الشيطان في قلب الإنسـان؛ ليثير بها قلقه الإيعادُ بالفقر. قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). [ البقرة: 268 ]، ودققِ النظر هنا كيف جمع الحكيم الخبير بين الإيعاد بالفقر والأمر بالفحشاء، وكيف أن الشيطان في وسوسته لابن آدم لا يكاد يخرج عن هذين المسلكين، فعندما يريد أن ينفق في وجوه الخير يخوفه الفقر، بينما يزين له إنفاقَ الأموال الطائلة في سبل الردى، نعوذ بالله من الخذلان، ولو التفت حولك لوجدت مصداق ذلك واقعاً، فكثير من الناس يقتِّرون على أنفسهم وأهليهم، متعللين بشتى الحيل، ولكن ما إن تَعِنُّ له شهوةٌ؛ حتى تجدَ منه كَرَماً لا يكادُ يُوصَف!!

ومن بواعث القلق في النفوس ضعفُ اليقين والتوكلِ على الله، ولو آمن بالله، وتوكل عليه من دهمته هذه الآفة، لأراح نفسه من أوصابها، كيف لا ونحن نسمعُ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس (رضي الله عنه) في وصـــيته لــه « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك رُفِعَتِ الأقلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُف».

ومما يبعث على القلق ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فكثير من القلق يجلبه الإنسان لنفسه؛ بأذية أخوانه، والولوغِ في أعراضهم ودمائهم، وكفى بذلك مجلبةً للشر والهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « بحسـب امـرئ من الشـر أن يحقر أخاه المسلم ».

ومن بواعث القلق أن يُعلق الإنسان أملَه بغير الله سبحانه وتعالى، ولا ريب أن من علق أمله بغير الله سبحانه وتعالى، فقد قَلِقَ وذلَّ وهانَ، فمن الناس يعلق أمله بزوجتهِ، ومنهم من يعلق أمله بمنصبه، ومنهم من يعلق أمله بماله، ومنهم من يعلق أمله بولده، ولا ريب أن من علق أمله بغير الله؛ فقد وَكَلَ نفسه إلى مَضْيَعه، وكفى بذلك خسراناً وجالباً للشر والقلق.

وليس كل القلق مذموم بل ثمةَ قلقٌ ممدوح يحمل صاحبه على العمل، ويجعل منه باعثاً عليه، فلا يزال يترقى به حتى يبلغ به مراتب العاملين، وإذا بلغ به تلك المراتب لا يزال به حتى يدعه في وجل من تلك الأعمال أقبلت منه أم ردت عليه؟ يصدق عليه قول الرب سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ). [المؤمنون: 60] ، قرأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية، فتوجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ أي في قلبه ذرة من إيمان قال: الحبيب صلى الله عليه وسلم : « لا يا عائشة، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق، ويخشى ألاّ يتقبل منه ».

ومن القلق الكريم، أن يُقْلِقَ العبدَ أمرُ خاتمته، فلا يدري أيُختمُ  له بخاتمةٍ حسنةٍ أم سيئةٍ، وكم أقلق خوفُ الخاتمة أفئدةَ العبَّاد من عباد الله الأخيار؛ لذا نرى سيد العباد وإمامَهم صلى الله عليه وسلم يدعو، فيقول: «اللهم إني أسألك حسن الخاتمة».

ذُكِرَ أن رجلين من بني إسرائيل أحدُهما صالحٌ والآخر مسرف على نفسه، في ليلة دهيمةٍ ليلها، أي مظلم ليلها، يستيقظ حس المسرف على نفسه، إلى متى وهو في معصية، وأخوه في طاعة، أما آن له أن يتوب إلى الله تعالى، وفي لحظة ضعفٍ عند العابد قال: أخي المسرف يهنأ ويفرح، وأنا هنا أتعبد، فلماذا لا أشاركه أفراحه السنة والسنتين، ثم أعود إلى طاعتي، وكانا في جبل أحدهما أعلاه والآخر في أسفله، هذا يصعد، وهذا ينزل ارتطما وسقطا فماتا، فحشر العابد إلى النار والمسرف إلى الجنة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم :« إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».

ومن القلق الذي استحوذ على قلوب كثير من الناس قلقُ العبد على الرزق والأجل، مع أن الأمر قد فرغ منه، وقد كتب العليم القدير أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.

ذُكِر أن أحد العارفين خرج، وقد ضاق صدره لضيق معيشته، وهو في الصحراء رأى نحلة تحمل حبة قمح، فتطيُر بها إلى أعلى شجرة، ثم تعود فتحمل حبة أخرى، ولحب الاستطلاع صَعَدَ الشجرة، فإذا به يرى عجباً؛ يرى عصفوراً أعمى، وقد سخر الله له نحلة تقوم بأمره، فتردد في قلبه قول الله عز وجل : (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)  [هود: 6].

وليس لما استقر في قلبك من علاج إلاّ بأن تلزم قلبك ذكر الله سبحانه وتعالى، فبذكر الله تطمئن القلوب. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أصاب عبداً هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي»، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إلاّ أذهب الله عنه همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً».

كذلك بلزوم الاستغفار تزول هموم القلب وقلاقلها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب».

ثم بالصلاة تتلاشى الشرور الأكدار، وقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة.

وعليك بزيارة القبور، فبزيارتها تتذكر الموت، وما ذكــر الموت في قليل إلاّ كثّره، ولا في قليل إلاّ قلّله، ولو كان بالغاً ما بلغ.

وتذكـر أن مما يزيــل همـك ويكشفـه، سعيك في كشف كرب إخوانك من المسلمين، ألم تسمع إلى قول حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول:« من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة». متفق عليه.

الكاتب: د. سعد الدريهم

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
83050

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري