مقالات الوعىأسلوب الحياةدروس من الحياة › الحياة تافهة إذا خلت من مثل أعلي

علمتني الحياة أنني ما حرصت علي بلوغ شيء فبلغته, إلا و أكون بعد بلوغه قد زهدته.
كنت صبيا صغيرا أعيش في أسرة مستورة الحال, تهيأت لها أسباب العيش في شيء من الطمأنينة و الدعة, و لم تتهيأ لها أسباب الثراء.. فتطلعت إلي خفض من العيش أوطأ مما كانت فيه. فأراد الله أن أبلغ شيئا من ذلك. و إذا بي أزهد ما في يدي منه. لا أرى البيت الذي أسكنه – و كنت أتطلع إلي مثله في مقتبل حياتي – إلا شيئا عاديا لا يشقي و لا يريح. و لا أرى المال الذي أحرزته – و كنت أحسب أنه يحقق شيئا من السعادة – إلا شيئا تافها لا يؤخر و لا يقدم. و لا أرى الجاه الذي بلغته – و كنت أنظر إلي مثله في غيري فأتوق إليه – إلا شيئا فارغا لا ينقص و لا يزيد, فعلمت أن الحياة تافهة, ما لم يرسم الإنسان لنفسه هدفا ساميا يسعى لتحقيقه, هدفا يعلو عن المادة, و يبقى علي الزمن, إذا ما حقق شيئا منه طابت نفسه, و طلب المزيد.

و علمتني الحياة أن الناس في درك هاو من الخسة, و في درجة عالية من السمو, ينطوون علي الشر و الخير, و يهبطون بقدر ما يرتفعون. عرفت و أنا شاب في العشرين شابا في سني و قامت بيننا أواصر الود و الصداقة. ثم تنكر لي الصديق, و أبدى من أسباب الجفوة ما دل علي انحطاط في الخلق و دناءة في الطبع, ثم ما لبث هذا الصديق, في ظروف أخري, أن صفا معدنه, و سمت نفسه, فتقدم في ميدان الجهاد, و بذل روحه فداء لوطنه, و مات شهيدا, فعلمت أن الناس لا يخلصون شياطين, و لا يتمحضون ملائكة, و العاقل من لبس الناس علي حالهم, لا يزهد في الصديق و إن بدا شره, و لا يقطع ما بينه و بين الناس لجرح لا يلبث أن يندمل, و لعارض لا يلبث أن يزول.

و علمتني الحياة أن حظوظ الناس تبدو متفاوتة أكثر من حقيقتها, و هم في الواقع متقاربون في الشقاء و السعادة.. لكل من حظه ما يسعده و من همه ما يشقيه. عرفت رجلا كثير العيال رقيق الحال, لا يشك من ينظر إليه في أنه ضيق بحظه من الدنيا. و هو لا يكاد يفيق من هم إلا و يعثر في هم. و علمت بعد ذلك أن الرجل ليس من الشقاء بالقدر الذي توحي به حاله. فهو قد ألف ضيق العيش, و وطن نفسه عليه, حتى إذا أصابته نعمة ضئيلة علي غفلة من دهره, كان تقديره لها كبيرا, و فرحه بها عظيما, و ذاق بها السعادة كما ذاق من قبلها الشقاء.

و علمت من ثقة أن أحد ملوك المال في مصر – و هو رجل من أقوى الرجال في بلده و من أعرضهم جاها و أوسعهم نفوذا – و قد عرف بالسيطرة علي أقدار الحكومات حتى أنه ليسقط حكومة و يقيم أخري.. هذا الرجل كثيرا ما يخلو إلي نفسه, لينسى سوء حظه و ليبتعد بشقائه عن عيون الناس, بل أنه ليتسلل من سريره في جنح الظلام لينفرد بنفسه و يبكي.

و عرفت سيدة كانت تتبرم بما أصابته من مال لا تعرف كيف تستغله. فآمنت بعد كل ذلك أن الناس سواسية في الشقاء و السعادة علي خلاف ما يبدو من تفاوتهم في ذلك و أن في الأرض عدلا بين الناس أكثر مما يظن الناس.

و علمتني الحياة أن نجاحي فيها رهن إيماني بنفسي و إيمان الناس بي.. فقد كانت ثقتي بنفسي تدفعني إلي العمل, و كانت ثقة الناس بي تجعلني أطمئن إلي نتيجة عملي. و هذا القدر المتوازن من ثقة الإنسان بنفسه و ثقة الناس به, لابد منه لنجاحه في الحياة.. فان زادت ثقته في نفسه علي هذا القدر, كان ذلك غرورا يضله عن الحقائق. و إن جاوز اعتماده علي ثقة الناس به هذا القدر, بحيث أصبح لا يصدر إلا عن رأى الناس و لا ينزل إلا عند هواهم, كان ذلك ضعفا و اضطرابا يورثان انقيادا و استسلاما. و تابعت في نفسي و في من حولي هذا التوازن, فأدركت أنه ضروري في كثير من الصفات الاخرى. هو ضروري في الواقعية و الخيال فان زادت الواقعية علي الحد الواجب, كان ذلك جمودا و ضيقا في الأفق. و إن زاد الخيال, كان ذلك ميوعة و إغراقا في البعد عن الحقائق. و هو ضروري في المادية و الروحية, فان زادت المادية, كان ذلك بلادة و تنكر للقيم العليا في الحياة, و إن زادت الروحية, كان ذلك عجزا عن مواجهة الحياة في حقائقها المادية. و هو ضروري في الاختلاط بين الناس و الانطواء علي النفس, و إلا كان الإمعان في الاختلاط بالناس إهدار للشخصية, و كان الإغراق في الانطواء علي النفس عزلة ضارة. و مع ذلك لا بد من التسليم بصعوبة أن يجمع الإنسان في نفسه هذا المزاج الموفق من الاعتدال و التوازن, و الأمر الجوهري هو أن يعرف كيف يستطيع أن يتخفف من الإفراط في صفة أو التفريط في أخري.

و علمتني الحياة أن الغفلة عن المستقبل هي أهم أسباب الراحة.. و ما تعبت لشيء أكثر من تعبي عندما أفكر في المستقبل. و لعل الموت هو الحقيقة الأولي التي لا يتطرق إليها الشك, و هو المستقبل المحتم. و من نعم الله علي الإنسان أن جعله قادرا علي التغافل عن هذه الحقيقة, و إلا ظل قلقا حائرا لا يفكر إلا في الموت.

و علمتني الحياة أن النعمة لا أعرف قيمتها إلا عندما تزول.
و علمتني الحياة أن تتسع أطماعي فلا أعرف أين أقف, ثم يتعثر بي الحظ فأرضي بالقليل.
و علمتني الحياة أنني أتعلم منها كل يوم, و لن أنقطع عن التعلم حتى تنقضي الحياة.
و من يدري – إذا أنا عشت – ماذا سأتعلم منها غدا.

نبذة عن الكاتب:
تخرج الدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري في مدرسة الحقوق بالقاهرة في سنة 1917 و كان أول فرقته في جميع سني الدراسة الثانوية و العالية, ثم أوفد إلي فرنسا, حيث حصل علي درجة الدكتوراة في العلوم القانونية, و علي درجة الدكتوراة في العلوم الاقتصادية و السياسية. و رجع إلي مصر و اشتغل بتدريس القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. ثم قاضيا بالمحاكم المختلطة, فمستشارا ملكيا, فوكيلا لوزارة المعارف, فوكيلا لوزارة العدل. ثم اختير وزيرا للمعارف ثم رئيس لمجلس الدولة, رحمه الله.

الكاتب: دكتور عبد الرازق السنهوري

التعليقات على الحياة تافهة إذا خلت من مثل أعلي

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
80564

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري