الطلاق

رغم وفرة وتعدد مصادر الثقافة والمعرفة في شتى الشؤون ، ، ورغم الكثير من قضايا الطلاق في المجتمع وما يسبقها من خلافات قد تقوم أحيانا على أسباب حقيقية أو على خلفية أعذار واهية لا منطقية تعد في كل الأحوال عبرة للآخرين إلا ان مشكلة الطلاق تتزايد في المجتمع بشكل خطير .

في الحقيقة لا توجد مشكلة بلا أسباب جوهرية ، وإن غلب الظن أو قصر الفهم على قشور وهمية وتوقعات روتينية . فمسألة الطلاق إما ان تطل أسبابها الحقيقية من خلف عقد الزواج أساسا ، أي قبل حدوثه ،وبالتحديد عند فترة الاختيار. فكثير من الشباب لا تتاح لهم فرصة الاختيار لأنهم ببساطة مرتهنين لابنة العم ، وقانون العرف لدى أسرهم يقتضي ان يتم هذا الزواج بغض النظر عن القبول بين الطرفين أو التكافؤ ، وغني عن القول ان مثل هذا الزواج يتخذ بداية تراجيدية مابين فتاة مغلوبة على أمرها لا تملك حق الرفض والتعبير عن رأيها في حق من أهم حقوقها ، وبين شاب مدفوع للزواج منها إرضاءا لتقاليد الأسرة . وباختصار فالمسألة جميعها تقع تحت مظلة " كلام الناس" الذي لا ينتهي في كل الأحوال .
وبما ان رضا الناس غاية لا تدرك ، فسوف يستمر أولئك الناس في الحديث عن مثل هذا الزواج فيما بعد ، وسيجدون أمامهم مادة دسمة للحديث والنقاش من خلال ما سيؤدي إليه غالبا من مشاكل وخلافات تنتهي في أكثر الأحوال بأبغض الحلال .

من جهة أخرى تظهر أسباب الطلاق في حالات أخرى بعد حدوث الزواج مع وجود أسباب سابقة قد تشكلت من خلال بيئة الطرفين وثقافتهما ومدى استعدادهما لحلحلة أي خلافات أو سلبيات تعترض طريق استمرار هذا الزواج تتعلق بخلفية وفكر الطرفين إزاء هذا المشروع القائم بينهما تتضامن مع تلك السابقة لتؤدي في النهاية إلى حدوث الطلاق تحت مظلة التساهل وسوء التقدير والأنانية في أكثر الأحوال .

ورغم ارتفاع الوعي وتوفر برامج التثقيف والتأهيل الأسري المخصصة للمقبلين على الزواج ، إلا ان الكثير يفصل مابين معرفته الخاصة ومنطقه القاصر وبين ما يتعلمه أو يعلمه بخصوص ما له وما عليه في العلاقة الزوجية . فلا يزال الشاب يقبل على الزواج وفي مخيلته زوجة مثالية لا ترفض له طلبا ، جميلة طوال الوقت ، أنيقة طوال الوقت ، تشبه في مظهرها وزينتها نجمات التلفاز اللاتي يظهرن خلال ساعات محددة تسبقها ساعات من التجهيز والعمل لتبدو للمشاهدين كما يرى ، بغض النظر عن واجبات زوجته المنزلية التي ينتظر منها ان تؤديها دونما تقصير متجاهلا أنها تشاركه الحياة طوال الوقت ومن المنطق ان يراها في مختلف أحوالها مثلما يحدث لها معه تماما . إضافة لذلك فقد يجد في هذه الزوجة صفة يكرهها فيتناسى كل ما فيها من مزايا ليركز ملاحظاته على تلك الصفة دون أي محاولة من جانبه لإزالتها أو تخفيف حدتها باعتبار ان الكمال ليس من صفات البشر . يقول صلى الله عليه وسلم :"لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا رضي منها آخر". رواه مسلم . ومعنى يفرك : أي يبغض .
وعلى الجانب الآخر تتوقع الفتاة ان تقضي الوقت مع زوج حنون باستمرار ، موافق على الدوام ، مستعد للخروج والنزهة أو الرومانسية في أي وقت ، بغض النظر عن ضغوطات العمل أو حالته المادية أو النفسية . وأكثر ما يهدم بيت المسكينة حرصها على المقارنة بغيرها أو لجوؤها إلى آراء الصديقات والقريبات ، وبما ان النساء تغلبهن العاطفة فلا مناص من تقديم بعضهن آراءا تهدم البيوت العامرة ، وكم من فتاة استشارت صديقاتها في أمور تتعلق بحياتها الزوجية فكانت نهايتها الطلاق ثم فوجئت فيما بعد بأن إحدى الناصحات قد حلت محلها واستحوذت على بيتها التي هدمته عندما حولت أسراره إلى موضوع نقاش بين الزميلات . وبعيدا عن اضطرار بعض الفتيات إلى طلب الطلاق لأسباب شرعية تتعلق بدين الزوج أو سلوكه ، فهناك من تظن ان الزواج ثوب ان لم يرق لها أبدلته بغيره ، وما ان يتم طلاقها لأسباب تافهة حتى تفاجأ بأنها تصارع مشاكل عديدة باعتبارها امرأة فشلت في حفظ بيتها والتمسك به . وقد تغلب العاطفة على كثير من الفتيات فتوافق على الزواج من غير الكفء ، وما ان تدخل في مرحلة الواقع والمعايشة الحقيقية حتى تعلن أنها لا تستطيع المضي في هذا الزواج ، وكأن ما ظهر لها من سلبيات ذلك الزوج أمرا مفاجئا لم تعلمه عنه من قبل . يقول صلى الله عليه وسلم : ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طلاقا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .والبأس : هو الشدة والسبب الملجئ للطلاق .

ان الطلاق لم يوجد للتلاعب بمصير أسرة وعلاقة شرعية بل لإزالة ضرر كبير لا يمكن إزالته إلا به بعد ان تستنفذ جميع الحلول ، لكن الكثير من الناس لا يدركون معنى هذا فوصل الأمر ببعضهم إلى طلاق من اجل أسباب واهية لا يمكن تخيلها كطلاق من اجل طعام أو لعبة وما شابهها ، بل ان بعض حالات الطلاق حدثت أثناء مراسم الزواج . ومثل هذا إنما يكشف عن شخصيات غير واعية تتصرف في هذا الحق بكل استهتار دونما مراعاة للحقوق التي وجبت عليها منذ إعلان هذا الزواج وإتمام عقده أو إدراك لضوابط الطلاق.

ان التحديات التي فرضتها الشاشات على حياة الأسرة الواحدة كبيرة جدا ، بل إنها تظهر جليه من خلال ابسط سلوكيات وقرارات الفرد الواحد . وتصوير الطلاق كلعبة تنتهي ببساطة عند أول خلاف أو أتفه سبب دون محاولة للتمسك بالعلاقة الزوجية والعمل المشترك للحفاظ عليها احتراما لها وحفظا لمصير أرواح بريئة قد تكون أثمرتها يعد هدما حقيقيا لأهم العلاقات في أية مجتمع . وفي كل مرة نجد للإعلام وبخاصة الإعلام المرئي يدا خفية تقبع خلف معظم المشكلات اليومية وهذا بلا شك دليل على الدور التأثيري لهذه الوسيلة وفشلها بنفس الوقت في القيام بما يفترض بها القيام به ، فليت وسائل الحضارة في العالم العربي تدفع به للتقدم والرقي بدلا من ان تكون معولا هادما لبنائه وتماسكه الذي لا يتعزز إلا بالقيم الإسلامية .

بالأمس كانت التقوى تضيء قلوب البسطاء فتمنعهم عن الظلم أو الاستخفاف بواجباتهم وحقوق غيرهم ، واليوم تعجز الكثير من الشهادات العلمية عن ردع البعض من اختيار الطلاق حلاً لخلافاتهم الصغيرة . فما أحوجنا لهذه التقوى كي نحترم حقوق الآخرين مثلما نحرص على حفظ حقوقنا .

الكاتب: نجاة المرزوقي

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
34367

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري