مقالات الوعىالعلاقات الإنسانيةالأسر المنفصلة › الأطفال يدفعون ثمن انفصال الأبوين. وتفكك المجتمع

الأطفال يدفعون ثمن انفصال الأبوين. وتفكك المجتمع

كلما تفكّرت بقول الرسول عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين رضي الله عنهما:(هما ريحانتاي من الدنيا) اقتنعت أكثر بأن لا شيء يعدل لدى الإنسان السوي علاقته بأطفاله, خاصة الصغار منهم, وكثيراً ما يتزوج اثنان عن حب فيتخيلا أن حياتهما هي الجنة, فإذا خلت حياتهما من الأطفال فإنها سرعان ما تستحيل إلى صحراء قاحلة, لأن الأطفال هم بهجة الدنيا وزينتها, ومن واجب أطفالنا علينا أن نرفق بهم في تربيتهم ونشعرهم بحبنا لهم من خلال الاهتمام المتواصل والرعاية الحانية.

إذا أردت أن تعرف قيمة الإنسانية في قلب أي إنسان فانظر إلى طريقة تعامله مع أطفاله, وهذا الكلام دليله من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام للأقرع بن جابس الذي رآه يقبل واحدا من أطفاله فقال: أو تقبلون صبيانكم؟ لي عشرة من الصبيان ما قبلت أحداً منهم, فقال له الرسول العظيم:(أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك), وفي رواية:(إن هذه رحمة, ومن لا يَرحم لا يُرحم).

وبعد هذه المقدمة تأتي عدة أسئلة: هل نحن حقاً نعيش في مجتمع يتميز بالتدين؟ ما فائدة مناهج الدين الكثيفة إذا لم تكن تغرس الأخلاق غرساً في نفس متلقّيها؟ هل نحن نتبع سنة الهادي عليه أفضل الصلاة وأعز التسليم في معاملتنا لأطفالنا؟ أم أن هذه الحالات التي نسمع بها لا تدل إلا على انتزاع الرحمة من قلوب أصحابها؟ هل هي حالات فردية معزولة كما يُراد لنا أن نظنّ؟ أم أنها فعلا ظاهرة تستحق الدراسة؟ إلى أي حدٍّ يصل الإجرام بالشخص حتى يقتل فلذة كبده تعذيباً؟

قرأت عن غصون, ومن قرأ وسمع غير من رأى وشاهد, ولم أر إلا صورتين لهذه الغصن النضير: صورة وهي تحمل حقيبتها المدرسية وترتسم على شفتيها ابتسامة مليئة بالحيوية والأمل, وصورة أخرى وهي جثة هامدة وعلى وجهها آثار التعذيب وكدمات التنكيل!

ثم قرأت عن أريج, لكن من الذي اختار الأسماء؟ أليس الأب والأم معاً هما اللذان يقرران تسمية الولد أو البنت؟ كيف سماها غصوناً ثم اغتال بسمة تلك الغصون وأزهق روحها؟ كيف سماها الآخر أريجاً ثم اغتال عبيرها الفواح وأنهى حياتها؟ ما تفسير هذا التناقض بين تسمية الطفلتين باسمين جميلين وبين كل هذه الكراهية وكل هذا العنف وكل هذا الإجرام في نفوس هذين الأبوين وزوجتيهما؟

أما أم غصون وأم أريج فقد طُلّقتا, وثمن الطلاق لم تدفعاه بفصلهما الجائر عن طفلتيهما فقط, بل دفعته الطفلتان البريئتان, فهل نحن بحاجة إلى جرائم أكثر وأشنع حتى نعيد البحث في قضايا الطلاق وسن الحضانة؟ سمعنا بالنظام القضائي الجديد فهل تراه سيحوي بين دفتيه الرحمة للأطفال والأمهات المطلقات؟ هل تراه سيحمي المجتمع من زيادة نسبة الطلاق بسبب الزواج الناجم عن سوء الاختيار؟ معذرة, أقصد الزواج الناجم عن انعدام وجود شيء اسمه الاختيار؟! هل لدينا إحصائيات تظهر نسبة الأسر القائمة على الحب والتفاهم؟ إذا كانت نسبة الطلاق وصلت في بعض المناطق إلى ثلث حالات الزواج, فمعنى ذلك أن ثلث الأسر مهدمة, فما بالنا إذا تحدثنا عن الطلاق العاطفي؟ وعن النساء المعلقات؟ وأخيرا عن ضحايا الطلاق الذي لا ذنب لهم؟

الأطفال يدفعون حياتهم ثمن انفصال الأبوين وتفكك الأسرة, لكنهم في حالات أشد مأساوية يدفعون ثمن تفكك المجتمع, والحالة التي جعلتني أكتب هذه المقالة ليست حالة غصون أو حالة أريج رغم بشاعة قصتيهما, لكن كثيرين كتبوا عنهما, أما الجريمة التي لم يكتب عنها إلا القليل فقد كانت بحقّ طفل من جازان, عرضها برنامج (حوار من الداخل) في الأسبوع الماضي وهي جريمة توصل الإنسان الذي يحاول أن يفكر بها إلى حد الذهول وفقدان أي قدرة تحليلية.. وأي قدرة عقلية!

القصة باختصار- لمن لم ير الحلقة - تدور حول قتل حَدَث لابن الجيران, ولم أفهم كيف تم ذلك, وهل هو قتل خطأ أم عمد, وأياً كانت الحال فقد اقتادت الشرطة الطفل الذي ارتكب فعل القتل إلى السجن, وتم سجن والده أيضاً على أنه محرض على الجريمة, ثم أطلق سراح الأب بعد سنة من سجنه, مع منعه من السؤال عن ولده وتهديده بالسجن مرة أخرى في حال تجرأ على السؤال, ولم يخضع الطفل لأي محاكمة ولم يحوَّل إلى أي إصلاحية للأحداث بل أُرسل إلى السياف, وقام الأخير بعمله, وعندما كشف عن وجه من قطع رقبته وجده طفلا لم يبلغ سن الحلم, فبهت السياف - وهو الذي مهنته القتل - من هذه الجريمة, وسألهم كيف لم يخبروه أنهم يريدون قطع رقبة حَدَث؟ لكن لا جواب!

ذهب الأب في اليوم التالي يسأل عن ابنه – رغم تهديدهم السابق له – وبكل برودة أعصاب جاءه الجواب: لقد أعدمناه! وسأل: أين جثته؟ فامتنعوا أن يسلِّموه إياها! منعوه من ابنه حياً وميتاً!

سأل مقدّمُ البرنامج الأبَ: كيف رضيتَ بذلك؟ قال الأب: حكم الله.. قتلوه فهو حكم الله ولكن لماذا لم يسلّموني جثته لأغسّله وأصلي عليه وأدفنه؟

المحامي الموجود أوضح أن قاتلي الفتى قاموا بمهام ثلاث جهات: التنفيذية والتشريعية والقضائية, فكيف حدث هذا؟!

أعاد مقدم البرنامج السؤال للأب: كيف هذا؟ كيف؟ وأجاب الأب: إن الأم رأته في حلمها قبل أن يقتلوه وهو يضحك ويقول:(يمزح يا عباس.. ما أظنه يقطع الراس) فهذا حكم الله!

مقدم البرنامج كمال عبد القادر المعروف بإمكانياته الحوارية بدا وكأن الحيرة عقدت لسانه لهول الصدمة, وهو معذور في ذلك, وأنا شخصياً لم أشعر إلا وأنا ممسكة برأسي بعد أن سمعت عبارة الفتى لأمه في المنام, وكأن يداً قوية تعصر قلبي ثم تبع ذلك نزيف الدموع من عيني, فأنا أم وأنت أيها القارئ أب, ونحن نربي أبناءنا جهدنا كي يكونوا أولاداً صالحين, لكن عندما يقوموا بجرم ما فإن من حقهم على المجتمع أن يصلحهم, ومن واجبنا نحن أن نساعد المجتمع في ذلك, ولذلك هناك إصلاحيات الأحداث في كل مكان في العالم, فهل هي ليست موجودة هنا؟!

الحديث الشريف يقول:(رُفع القلم عن ثلاث.. ) منهم: (الصبي حتى يبلغ......) مما يعني أنه لا يجوز أن يعامَل أي طفل قبل بلوغه كأنه مجرم, لأن محاكمته المنطقية غير موجودة, ولذلك كانت طفولة الإنسان أطول طفولة بين المخلوقات كي يمكن خلالها بناء ضميره الأخلاقي جيداً, وهذه مهمة التربية, فإن لم تفلح التربية يأتي دور إصلاحيات الأحداث.

الآية القرآنية الكريمة:(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) تظهر فارقاً بين وصول الصبي سن البلوغ وبين وصوله سن الرشد, ولذلك أجمع غالبية الفقهاء أن سن الرشد هي 18 سنة, وبعضهم رفعها إلى سن 21, وأنا من أنصار الرأي الأخير, وعلى كل حال فبين سن البلوغ وسن الرشد فارق 4 سنوات على الأقل, يقتضي أن نأخذه بعين الاعتبار, ولا يجوز أن يسجن الطفل حتى يبلغ سن الرشد بسبب جريمة ثم نحاسبه عليها, بل يُكتفى برد الحقّ إلى صاحبه إن أمكن ذلك, أو إرضاؤه في حال لم يكن رد الحق ممكناً, ولكن دون متاجرات بالدية ومزايدات على الدماء.

انتهت الحلقة الأليمة بعبارة الأب المكلوم:(أنا وابني في ذمة خادم الحرمين الشريفين إلى يوم الدين) وكررها عدة مرات, وإن مهمة كل من سمع هذه العبارة أن يوصلها إلى مأمنها, ولذلك تنتهي مهمتي هنا, راجية أن ترتاح روح هذا الطفل كما ارتاحت روح غصون, ورغم الفارق بين الحالتين, فهو يبقى طفلا غير مدرِك ولا مؤاخَذ.

الوطن السعودية 4/2/2008

الكاتب: دكتورة ليلى الأحدب

التعليقات على الأطفال يدفعون ثمن انفصال الأبوين. وتفكك المجتمع

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
90836

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري