مقالات الوعىالصحة العقليةاضطرابات الأكل › الأنوركسيا: المشاعر الدفينة

أتذكر مدى حيرتي عندما سمعت لأول مرة عن اضطراب فقدان الشهية العصابي anorexia . وتلاحقت الأسئلة في ذهني: لماذا يرفض إنسان الأكل؟ لماذا يرفض أن يأكل حتى وإن شعر بالجوع؟ لماذا يرفض البعض إطعام أنفسهم لدرجة تعريض حياتهم للخطر؟
واكتشفت أنه واقع فعلي في حياة البعض. ومن المفارقات المثيرة للاستغراب أنهم يعرضون حياتهم للخطر برفض الطعام وكأن بقاءهم على قيد الحياة يعتمد على مقدار صمود مقاومتهم للأكل! وكأن الطعام هو عدوهم. وقلت في نفسي أن يقبل أي إنسان أن يموت جوعاً في بيئة متوفر فيها شتى أنواع الطعام فكرة غير منطقية ولا تفسير لها.
وعندما أتذكر ردود أفعالي الأولية هذه يلفت انتباهي أن كل تفكيري كان منصب على ارتباط هذا الاضطراب بالطعام فقط.

لكن عبر السنوات أدركت الديناميكية وراء الأنوركسيا، وهي آلية الصراع الذي يدور في نفس مريض الأنوركسيا. وأدركت كم هي واسعة الجوانب ولا تتعلق بالطعام فقط.

كيف تعمل الأنوركسيا في النفس البشرية


لأن آلية الأنوركسيا متعددة الجوانب وجدت أنه تفادياً للحيرة أن أصورها في أمثلة بسيطة لأطفال حديثي الولادة.

الطفل السعيد:

الصورة الأولي هي لطفلة حديثة الولادة سنها تسعة أشهر تنام بسلام. تبدأ تجوع، ولكنها لا تدرك أن شعورها هذا هو الشعور بالجوع، لكنها تشعر تدريجياً بعدم الراحة. بعد لحظات تبدأ في التململ قليلا ثم تنتقل إلى إصدار بعض الأصوات، ليس بكاء، لكنها أصوات تنم على أن هناك خطب ما. ثم تزداد حدة أصواتها قليلاً ومعها حدة حركتها إلى حد ما. ثم تطلق صوتها بالبكاء. فالطفلة هنا تزيد تدريجياً من جهودها في التعبير عن احتياجاتها. إن كان لديها عائلة منتبهة لاحتياجاتها فسنجدهم بدورهم بدؤوا في محاولة حل المشكلة منذ أن بدأت الطفلة تململ. فيلتفون حولها ويتساءلون فيما بينهم هل هي تحتاج لتغيير حفاضتها؟ هل تشعر بالنعاس؟ هل تريد أن تأكل؟ وكلما تتزايد جهود هذه الطفلة بالتدريج نجد أيضا تزايدا في مجهود عائلتها لسد احتياجاتها الملحة. هنا تزايد جهود الطفلة للتعبير عن احتياجاتها وتزايد جهود عائلتها لتسديد احتياجاتها يتصاعدان معاً وبالتالي يتم تمييز الاحتياج من قبل الأهل ثم إشباعه. 

نحن كبالغين نشبه هذه الطفلة. قليلون منا يستطيعون بسهولة تمييز نوع احتياجاتهم بصورة فورية. لذا في معظم الأحيان نبدأ بالتململ وبإصدار أصوات مبهمة. وبالتدريج نعلي من صوتنا علنا نحدد نوع احتياجنا. وعندما ندركه نعبر عنه بفاعلية حتى نسعى لتسديده. وهذه العملية تستغرق وقتاً. ولكن إذا كنا نعيش في مجتمع مهتم باحتياجاتنا ستنجح هذه الآلية في تسديد ما نحتاج إليه. فعندما نعبر عن احتياجاتنا ونجد من يسددها أو يقبلها تتحقق لنا الرعاية الجسدية أو العاطفية أو الروحية تبعا لنوع وطبيعة ما كنا نحتاجه.

البعض قد يعترض بالقول "صورة الطفلة السعيدة صورة غير واقعية. على الأقل فهي لا تعبر عن حياتي."
نعم للأسف الشديد قليلون جدا منا يختبرون هذه العملية بتلك البساطة ـــــ تمييز الاحتياج ثم التعبير عنه ثم تسديده. ولسان حال الأكثرية ليت حياتي كانت بتلك البساطة. فلو كانت هكذا لكنت أسعد الناس الآن. الكثيرون منا وجدوا أن هذه العملية برمتها مسألة معقدة جدا. فهناك العديد من التعقيدات التي يمكن أن تعترض طريق تلك الآلية البسيطة والصحية.

الطفل الفاقد للشهية

تخيل معي طفلة أخرى حديثة الولادة تنام في سلام. ثم تبدأ هذه الطفلة في الحركة وإصدار الأصوات. وبالتدريج تزيد من إصدار الأصوات لتحسن من تواصلها مع الآخرين. ثم تسلك كل الطرق المتاحة لها من احتقان الوجه وتشنج الأطراف والصراخ اليائس. ثم تنتقل إلى مرحلة الصراخ المستمر. تصرخ وتصرخ وتصرخ ولكن لا أحد يأتي أو يجيب نداءها. لذا تستمر بالصراخ ولكن ما هي المرحلة التالية؟ بالتدريج وبعد فترة طويلة تتوقف عن الصراخ وتصمت تماماً. من المحتمل أن يكون صمتها هذا نابعا من شدة الإرهاق والإنهاك، أو قد تكون أدركت أن كل محاولاتها لن تجدي. وتختار الاستسلام! فألمه أقل من ألم الاستمرار بالإحساس بالجوع. ألم اليأس حينئذ يصبح أقل من ألم الشعور المستمر باحتياجاتها ورغباتها الغير مسددة.

أتذكر منذ عدة سنوات أني شاهدت فيلماً وثائقياً عن حرب البوسنة وكان يتضمن الكثير من اللقطات المأخوذة في ملجأ للأطفال أثناء الحرب هناك. كانت غرفة يشغلها حوالي 30 أو 40 طفل صغير. كانت الغرفة هادئة تماما. في البداية اندهشت كيف أن أطفال مجتمعون في غرفة واحدة في ملجأ في البوسنة أثناء الحرب بهذا القدر من الأطفال السعادة والاكتفاء! ولكنني عرفت الحقيقة لاحقاً، لا يدل هذا المشهد على أن أطفال تلك الغرفة سعداء. فلقد كان هذا الملجأ يفتقر بدرجة كبيرة إلى عاملين ومسئولين بل تنقصه بشدة الموارد الأساسية أو حتي البدائية جدا اللازمة للأطفال. فالحقيقة أن هذه الغرفة كان يشغلها أطفال بكوا وصرخوا حتى دميت وعيونهم ولم تعد لديهم أية قدرة على البكاء أو الصراخ. لقد أنهكوا من كثرة البكاء. أطفال بلغوا نهاية المطاف في طلب احتياجاتهم. وكأن لسان حالهم يقول لماذا استمر في البكاء وليس هناك أمل أن يجيبني أحد؟ لماذا اصرخ خاصة وأني اعتدت على مشاعر الجوع وصارت طبيعية. – فلم يعد الجوع مشكلة تتطلب حلا ولكن الواقع الذي ينبغي أن أعايشه. لم يكن الأمر كما ظننت في البدء: غرفة مليئة بالسعادة والرضا والهدوء، ولكنها كانت غرفة مليئة بأطفال نسوا كيف يسعون ويرغبون في الرعاية و العناية مرة أخرى!

عدم القدرة علي الرغبة وعدم القدرة علي البكاء مرة أخري واليأس من السمات الأساسية لفقدان الشهية.

الكاتب: دايل راين - كاتب أمريكى

التعليقات على الأنوركسيا: المشاعر الدفينة

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
73919

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري